Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 69-69)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ما تُكنُّ صدورهم أي : السر { يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] والسر : ما تركتَه في نفسك محبوساً ، وأسررْتَه عن الخَلْق لا يعرفه إلا أنت ، أو السر : ما أسررتَ به إلى الغير ، وساعتها لن يبقى سِراً ، وإذا ضاق صدرك بأمرك ، فصدر غيرك أضيق . وإذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بأن علمه واسع يعلم السر ، فهو يعلم الجهر من باب أَوْلَى لأن الجهر يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه . أما الأخفى من السر ، فلأنه سبحانه يعلم ما تُسِره في نفسك قبل أنْ يوجد في صدرك ، وهو وحده الذي يعلم الأشياء قبل أن توجد . ولك أن تسأل : إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر ، فماذا عن الجهر وهو شيء معلوم للجميع ؟ وهذه المسألة استوقفتْ بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين المنحلين الذين يجارونهم . وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن الله تعالى سوَّى في علمه تعالى بين السر والجهر ، فقال سبحانه : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ ٱلْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ … } [ الرعد : 10 ] . وقال سبحانه : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ … } [ الملك : 13 ] . والآية التي معنا : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ القصص : 69 ] وفي هذه الآيات قدّم السر على الجهر ، أما في قوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } [ الأعلى : 6 - 7 ] . وقال سبحانه : { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] فقدَّم العلم بالجهر على العلم بالسرِّ ، ولا يقدم الجهر إلا إذا كان له ملحظية خفاء عن السر ، وهذه الملحظية غفل عنها السطحيون ، فأخطأوا في فهم الآية . فأنت مثلاً لو أسررتَ في نفسك شيئاً ، فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملامح وجهك ، وربما خانك التعبير فدلَّ على ما أسررتْه ، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ … } [ محمد : 30 ] . إذن : هناك قرائن وعلامات نعرف بها السر ، أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهراً واحداً لأنه مقابل بالجمع : { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] فالمعنى : ويعلم ما تجهرون وما تكتمون . ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس ، يهتف كل منهم هتافاً ، أتستطيع أن تميز بين هذه الهتافات ، وأنْ تُرجع كلاً منها إلى صاحبها ؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبُّره ، لذلك امتن الله علينا بعلمه للجهر من القول الذي لا نعلمه نحن مهما أوتينا من آلات فَرْز الأصوات وتمييزها . لذلك يقولون : لا تستطيع أنْ تُحدِّد جريمة في جمهور من الناس لأن الأصوات والأفعال مختلطة ، يستتر كلٌّ منها في الآخر كما يقولون : الفرد بالجمع يُعْصَم . ويقولون : الجماهير ببغائية ، كما قال شوقي في مصرع كليوباترا ، لما انهزموا في يوم أكتيوما وأشاعوا أنهم انتصروا ، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على العقلاء من القوم ، فيقول أحدهم للآخر عن غوغائية الجماهير : @ اسْمع الشَّعْبَ دُيُونُ كَيْفَ يُوحُون إليْهِ مَلأ الجوَّ هتافاً بِحيَاتيْ قَاتليْهِ أثَّر البهتانُ فيه وَانْطلى الزُّور عليْه يَا لَهُ مِنْ ببغاء عقلُه في أُذُنَيْه @@ إذن : فَعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنَّ الله بها ، كما يمتنُّ سبحانه بعلم السر . وقال سبحانه { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ … } [ القصص : 69 ] ليُطمئن رسول الله لأنه سبحانه ربه ، والمتولي لتربيته والعناية به ، يقول له : لا تحزن مما يقولون ، فأنا أعلم سِرَّهم وجهرهم ، فإنْ كنتَ لا تعرف ما يقولون فأنا أعرفه ، وسوف أخبرك به ، ألم يقل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ … } [ المجادلة : 8 ] . فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس ، كأنه سبحانه يقول لرسوله : إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم بما عرفتَ من أفعالهم فحسب ، بل بما لا تعلم مما فعلوه ، ليطمئن رسول الله أنه سبحانه يُحصي عليهم كل شيء . ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } .