Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 76-76)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الآخرة ، إنما يجعله مثَلاً وعِبرة واضحة في الدنيا لكل مَنْ لم يؤمن بيوم القيامة لعلَّه يرتدع . والنبي صلى الله عليه وسلم اضطهده كفار قريش ، ووقفوا في وجه دعوته ، وآذوْا صحابته ، حتى أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم ، ومع ذلك ينزل القرآن على رسول الله يقول : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . فيتعجب عمر رضي الله عنه : أيُّ جمع هذا ؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا ، فلما وقعتْ بدر وانهزم الكفار وقُتِلوا . قال عمر : نعم صدق الله { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . لذلك يقولون : لا يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم الله منه ، ويرى فيه المظلوم يوماً يشفي غليله ، ولما مات ظلوم في الشام ولم يَرَ الناس فيه ما يدل على انتقام الله منه تعجّبوا وقال أحدهم : لا بُدَّ أن الله انتقم منه دون أن نشعر ، فإنْ أفلتَ من عذاب الدنيا ، فوراء هذه الدار دار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وعَدْل الله - عز وجل - يقتضي هذه المحاسبة . والحق - تبارك وتعالى - يجعل من قارون عبرةً لكل مَنْ لا يؤمن بالآخرة ليخاف من عذاب الله ، ويحذر عقابه ، والعبرة هنا بمَنْ ؟ بقارون رأس من رؤوس القوم ، وأغنى أغنيائهم ، والفتوة فيهم ، فحين يأخذه الله يكون في أَخَذه عبرة لمن دونه . وحدَّثونا أن صديقاً لنا كان يعمل بجمرك الأسكندرية ، فتجمّع عليه بعض زملائه من الفتوات الذين يريدون فَرْضَ سيطرتهم على الآخرين ، فما كان منه إلا أنْ أخذ كبيرهم ، فألقاه في الأرض ، وعندها تفرَّق الآخرون وانصرفوا عنه . ومن هذا المنطلق أخذ الله تعالى قارون ، وهو الفتوة ، ورمز الغِنى والجاه بين قومه ، فقال تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ … } [ القصص : 76 ] إذن : حينما نتأمل حياة موسى عليه السلام نجده قد مُنِي بصناديد الكفر ، فقد واجه فرعون الذي ادَّعى الألوهية ، وواجه هامان ، ثم موسى السامري الذي خانه في قومه في غيبته ، فدعاهم إلى عبادة العجل . ومُني من قومه بقارون ، ومعنى : من قومه ، إما لأنه كان من رحمه من بني إسرائيل ، أو من قومه يعني : الذين يعيشون معه . والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة بأكثر من هذا ، لكن المفسرين يقولون : إنه ابن عمه . فهو : قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب . وللمؤرخين كلام في العداوة بين موسى وقارون ، قالوا : حينما سأل موسى عليه السلام ربه أنْ يشدَّ عضده بأخيه هارون ، أجابه سبحانه { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 36 ] وليست هذه أول مرة بل { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } [ طه : 37 ] وأرسل الله معه أخاه هارون لأنه أفصح من موسى لساناً ، وجعلهما شريكين في الرسالة ، وخاطبهما معاً { ٱذْهَبَآ … } [ طه : 43 ] ليؤكد أنَّ الرسالة ليست من باطن موسى . وإنْ رأيت الخطاب في القرآن لموسى بمفرده ، فاعلم أن هارون مُلاحَظ فيه ، ومن ذلك لما دعا موسى على قوم فرعون ، فقال : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [ يونس : 88 ] . فالذي دعا موسى ، ومع ذلك لما أجابه ربه قال : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا … } [ يونس : 89 ] وهذا دليل على أن هارون لم يكن رسولاً من باطن موسى ، إنما من الحق سبحانه ، وأيضاً دليل على أن المؤمِّن على الدعاء كالداعي ، فكان موسى يدعو وهارون يقول : آمين . ولما ذهب موسى لميقات ربه قال لأخيه { ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي … } [ الأعراف : 142 ] وفي غيبة موسى حدثتْ مسألة العجل ، وغضب موسى من أخيه هارون ، فلما هدأتْ بينهما الأمور حدث تخصيص في رسالة كل منهما ، فأعطى هارون الحبورة والحَبْر : هو العالم الذي يُعَد مرجعاً ، كما أُعطِي القربان أي : التقرب إلى الله . وعندها غضب قارون لأنه خرج من هذه المسألة صُفْر اليدين ، وامتاز عنه أولاد عمومته بالرسالة والمنزلة ، رغم ما كان عنده من أموال كثيرة . ثم إن موسى - عليه السلام - طلب من قارون زكاة ماله ، دينار في كل ألف دينار ، ودرهم في كل ألف درهم ، فرفض قارون وامتنع ، بل وألَّبَ الناس ضد موسى - عليه السلام . ثم دبَّر له فضيحة ليصرف الناس عنه ، حيث أغرى امرأة بغياً فأعطاها طِسْتاً مليئاً بالذهب ، على أن تدَّعي على موسى وتتهمه ، فجاء موسى عليه السلام ليخطب في الناس ، ويُبيِّن لهم الأحكام فقال : مَنْ يسرق نقطع يده ، ومَنْ يزني نجلده إن كان غير محصن ، ونرجمه إنْ كان محصناً ، فقام له قارون وقال : فإن كنتَ أنت يا موسى ؟ فقال : وإنْ كنتُ أنا . وهنا قامت المرأة البغيُّ وقالت : هو راودني عن نفسي ، فقال لها : والذي فلق البحر لَتقُولِنّ الصدق فارتعدتْ المرأة ، واعترفت بما دبَّره قارون ، فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه السلام . وبدأ قارون في البَغْي والطغيان حتى أخذه الله ، وقال في حقه هذه الآيات : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ … } [ القصص : 76 ] . والبغي : تجاوز الحدّ في الظلم ، خاصة وقد كان عنده من المال ما يُعينه على الظلم ، وما يُسخِّر به الناس لخدمة أهدافه ، وكأنه يمثل مركز قوة بين قومه ، والبغي إما بالاستيلاء على حقوق الغير ، أو باحتقارهم وازدرائهم ، وإما بالبطر . ثم يذكر حيثية هذا البغي : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ … } [ القصص : 76 ] . كلمة مفاتح كما في قوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ … } [ الأنعام : 59 ] . ولو قلنا : مفاتح جمع ، فما مفردها ؟ لا تقُلْ مفتاح لأن مفتاح جمعها مفاتيح ، أما مفاتح ، فمفردها مَفْتح وهي آلة الفتح كالمفتاح ، وهي على وزن مبرد فالمعنى : أن مفاتيح خزائنه لو حملتْها عصبة تنوء بها ، وهذه كناية عن كثرة أمواله ، نقول : ناء به الحِمْل ، أو ناء بالحمل ، إذا ثقُل عليه ، ونحن لا نميز الخفيف من الثقيل بالعين أو اللمس أو الشم إنما لا بُدَّ من حمله للإحساس بوزنه . وقلنا : إن هذه الحاسة هي حاسة العَضَل ، فالحملْ الثقيل يُجهد العضلة ، فتشعر بالثقل ، على خلاف لو حملتَ شيئاً خفيفاً لا تكاد تشعر بوزنه لخفْته ، ولو حاولتَ أنْ تجمع أوزاناً في حيز ضيق كحقيبة هاندباج فإن الثقل يفضحك لأنك تنوء به . والعُصْبة : هم القوم الذين يتعصَّبون لمبدأ من المبادئ بدون هَوىً بينهم ، ومنه قول إخوة يوسف : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ … } [ يوسف : 8 ] . إنها كلمة حق خرجت من أفواههم دون قصد منهم لأنهم فعلاً كانوا قوةً متعصبين بعضهم لبعض في مواجهة يوسف وأخيه ، وكانا صغيرين لا قوةَ لهما ولا شوكة ، وكانوا جميعاً من أم واحدة ، ويوسف وأخوه من أم أخرى ، فطبيعي أن يميل قلب يعقوب عليه السلام مع الضعيف . وقالوا : العصبة من الثلاثة إلى العشرة ، وقد حددهم القرآن بقوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً … } [ يوسف : 4 ] وهم إخوته ومنهم بنيامين { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ … } [ يوسف : 4 ] أي : أباه وأمه . فمن هاتين الآيتين نستطيع تحديد العصبة . وبهذا التفكير الذي يقوم على ضم الآيات بعضها إلى بعض حَلَّ الإمام علي - رضي الله عنه - مسألة تُعدُّ معضلة عند البعض ، حيث جاءه مَنْ يقول له : تزوجتُ امرأة وولدتْ بعد ستة أشهر ، ومعلوم أن المرأة تلد لتسعة أشهر ، فلا بُدَّ أنها حملت قبل أنْ تتزوج . فقال الإمام علي : أقل الحمل ستة أشهر ، فقال السائل : ومن أين تأخذها يا أبا الحسن ؟ قال : نأخذها من قوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً … } [ الأحقاف : 15 ] وفي آية أخرى قال سبحانه : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ … } [ البقرة : 233 ] . يعني : أربعة وعشرين شهراً ، وبطرح الأربعة والعشرين شهراً من الثلاثين يكون الناتج ستة أشهر ، هي أقل مدة للحمل . وهكذا تتكاتف آيات القرآن ، ويكمل بعضها بعضاً ، ومن الخطأ أن نأخذ كل آية على حدة ، ونفصلها عن غيرها في ذات الموضوع . ثم يقول سبحانه : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [ القصص : 76 ] والنهي هنا عن الفرح المحظور ، فالفرح : انبساط النفس لأمر يسرُّ الإنسان ، وفَرْق بين أمر يسرُّك لأنه يُمتعك ، وأمر يسرُّك لأنه ينفعك ، فالمتعة غير المنفعة . فمثلاً ، مريض السكر قد يأكل المواد السكرية لأنها تُحدِث له متعة ، مع أنها مضرة بالنسبة له ، إذن : فالفرح ينبغي أن يكون بالشيء النافع ، لأن الله تعالى لم يجعل المتعة إلا في النافع . فحينما يقولون له { لاَ تَفْرَحْ . . } [ القصص : 76 ] أي : فرح المتعة ، وإنما الفرح بالشيء النافع ، ولو لم تكن فيه متعة كالذي يتناول الدواء المر الذي يعود عليه بالشفاء ، لذلك يقول تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ … } [ يونس : 58 ] . ويقول تعالى : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ … } [ الروم : 4 - 5 ] فسماه الله فرحاً لأنه فرح بشيء نافع لأن انتصار الدعوة يعني أن مبدءك الذي آمنتَ به ، وحاربت من أجله سيسيطر وسيعود عليك وعلى العالم بالنفع . ومن فرح المتعة المحظور ما حكاه القرآن : { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ … } [ التوبة : 81 ] هذا هو فرح المتعة لأنهم كارهون لرسول الله ، رافضون للخروج معه ، ويسرُّهم قعودهم ، وتركه يخرج للقتال وحده . فقوله تعالى : { لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [ القصص : 76 ] أي : فرح المتعة الذي لا ينظر إلى مَغبّة الأشياء وعواقبها ، فشارب الخمر يشربها لما لها من متعة مؤقتة ، لكن يتبعها ضرر بالغ ، ونسمع الآن مَنْ يقول عن الرقص مثلاً إنه فن جميل وفن رَاقٍ لأنه يجد فيه متعة ما ، لكن شرط الفن الجميل الراقي أن يظل جميلاً ، لكن أنْ ينقلب بعد ذلك إلى قُبْح ويُورِث قبحاً ، كما يحدث في الرقص ، فلا يُعَدُّ جميلاً . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ … } .