Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 77-77)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى { وَٱبْتَغِ … } [ القصص : 77 ] أي : اطلب { فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ … } [ القصص : 77 ] بما أنعم عليك من الرزق { ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ … } [ القصص : 77 ] لأنك إن ابتغيت برزق الله لك الحياة الدنيا ، فسوف يَفْنى معك في الدنيا ، لكن إنْ نقلتَهُ للآخرة لأبقيتَ عليه نعيماً دائماً لا يزول . وحين تحب نعيم الدنيا وتحتضنه وتتشبث به ، فاعلم أن دنياك لن تمهلك ، فإما أنْ تفوت هذا النعيمَ بالموت ، أو يفوتك هو حين تفتقر . إذن : إن كنت عاشقاً ومُحباً للمال ولبقائه في حَوْزتك ، فانقله إلى الدار الباقية ، ليظل في حضنك دائماً نعيماً باقياً لا يفارقك ، فسارع إذن واجعله يسبقك إلى الآخرة . " وفي الحديث الشريف لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة عن الشاة التي أُهديَتْ له قالت بعد أن تصدقت بها : ذهبتْ إلا كتفها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " بل بقيتْ إلا كتفها " . ويقول صلى الله عليه وسلم : " ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فافنيتَ ، أو لبستَ فأبليتَ ، أو تصدقْتَ فأبقيْتَ " . لذلك كان أولو العزم حين يدخل على أحدهم سائل يسأله ، يقول له : مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة . والإمام علي - رضي الله عنه - جاءه رجل يسأله : أأنا من أهل الدنيا ، أم من أهل الآخرة ؟ فقال : جواب هذا السؤال ليس عندي ، بل عندك أنت ، وأنت الحكم في هذه المسألة . فإنْ دخل عليك مَنْ تعودت أنه يعطيك ، ودخل عليك مَنْ تعودت أنْ يأخذ منك ، فإنْ كنتَ تبشُّ لمن يعطي ، فأنت من أهل الدنيا ، وإنْ كنتَ تبشُّ لمَنْ يسألك ويأخذ منك ، فأنت من أهل الآخرة ، لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب ، فإنْ كنتَ محباً للدنيا فيسعدك مَنْ يعطيك ، وإنْ كنتَ محباً للآخرة فيسعدك مَنْ يأخذ منك . وإذا كان ربنا - عز وجل - يوصينا بأن نبتغي الآخرة ، فهذا لا يعني أن نترك الدنيا : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا … } [ القصص : 77 ] لكن هذه الآية يأخذها البعض دليلاً على الانغماس في الدنيا ومتعها . وحين نتأمل { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا … } [ القصص : 77 ] نفهم أن العاقل كان يجب عليه أنْ ينظر إلى الدنيا على أنها لا تستحق الاهتمام ، لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة حياته . فالمعنى : كان ينبغي علىَّ أنْ أنساها فذكِّرني الله بها . ولأهل المعرفة في هذه المسألة مَلْمح دقيق : يقولون : نصيبك من الشيء ما ينالك منه ، لا عن مفارقة إنما عن ملازمة ودوام ، وعلى هذا فنصيبك من الدنيا هو الحسنة التي تبقى لك ، وتظل معك ، وتصحبك بعد الدنيا إلى الآخرة ، فكأن نصيبك من الدنيا يصُبُّ في نصيبك من الآخرة ، فتخدم دنياك آخرتك . أو : يكون المعنى موجهاً للبخيل الممسك على نفسه ، فيُذكِّره ربه { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا … } [ القصص : 77 ] يعني : خُذْ منها القَدْر الذي يعينك على أمر الآخرة ، لذلك قالوا عن الدنيا : هي أهم من أن تُنْسى - لأنها الوسيلة إلى الآخرة - وأتفه من أن تكون غاية لأن بعدها غاية أخرى وأبقى وأدوم . ثم يقول سبحانه : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ … } [ القصص : 77 ] الحق سبحانه يريد أنْ يتخلَّق خَلْقه بخُلُقه ، كما جاء في الأثر " تخلقوا بأخلاق الله " . فكما أحسن الله إليك أحسِنْ إلى الناس ، وكما تحب أنْ يغفر الله لك ، اغفر لغيرك إساءته { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ … } [ النور : 22 ] . وما دام ربك يعطيك ، فعليك أنْ تعطي دون مخافة الفقر لأن الله تعالى هو الذي استدعاك للوجود لذلك تكفَّل بنفقتك وتربيتك ورعايتك . لذلك حين ترى العاجز عن الكسب - وقد جعله ربه على هذه الحال لحكمة - حين يمد يده إليك ، فاعلم أنه يمدُّها لله ، وأنك مناول عن الله تعالى . ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً … } [ الحديد : 11 ] . فسمَّى الصدقة قرضاً لله ، لماذا ؟ لأن هذا العبد عبدي ، مسئول مني أن أرزقه ، وقد ابتليتُه لحكمة عندي - حتى لا يظنّ أحد أن المسألة ذاتية فيه ، فيعتبر به غيره - فمَنْ إذن يقرضني لأسُدَّ حاجة أخيكم ؟ وقال تعالى : { يُقْرِضُ ٱللَّهَ … } [ الحديد : 11 ] مع أنه سبحانه الواهب لأنه أراد أن يحترم ملكيتك ، وأن يحترم انتفاعك ، وسَعْيك … كما لو أراد والد أنْ يُجري لأحد أبنائه عملية جراحية مثلاً وهو فقير وإخوته أغنياء ، فيقول لأولاده : اقرضوني من أموالكم لأجري الجراحة لأخيكم ، وسوف أردُّ عليكم هذا القرض . " وفي الحديث الشريف أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة - رضوان الله عليها - فوجدها تجلو درهماً فسألها : " ماذا تصنعين به " ؟ قالت : أجلوه ، قال : " لِمَ " ؟ قالت : لأني نويت أن أتصدق به ، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير " . إذن : فالمال مال الله ، وأنت مناول عن الله تعالى . وقد وقف بعض المستشرقين عند هذه المسألة لأنهم يقرأون الآيات والأحاديث مجرد قراءة سطحية غير واعية ، فيتوهمون أنها متضاربة . فقالوا هنا : الله تعالى يقول : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ … } [ الحديد : 11 ] . وقال في موضع آخر : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا … } [ الأنعام : 160 ] وفي الحديث الشريف : " مكتوب على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر " . فظاهر الحديث يختلف مع الآية الكريمة - هذا في نظرهم - لأنهم لا يملكون المَلَكة العربية في استقبال البيان القرآني . وبتأمل الآيات والأحاديث نجد اتفاقهما على أن الحسنة أو الصدقة بعشر أمثالها ، فالخلاف - ظاهراً - في قوله تعالى : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ … } [ الحديد : 11 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " والقرض بثمانية عشر " . وليس بينهما اختلاف ، فساعة تصدَّق الإنسان بدرهم مثلاً أعطاه الله عشرة منها الدرهم الذي تصدَّق به ، فكأنه أعطاه تسعة ، فحين تُضَاعف التسعة ، تصبح ثمانية عشرة . ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 77 ] والفساد يأتي من الخروج عن منهج الله ، فإنْ غيَّرت فيه فقد أفسدتَ ، فالفساد كما يكون في المادة يكون في المنهج ، وفي المعنويات ، يقول سبحانه : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا … } [ الأعراف : 56 ] . فالحق سبحانه خلق كل شيء على هيئة الصلاح لإسعاد خلقه ، فلا تعمد إليه أنت فتفسده ، ومن هذا الصلاح المنهج ، بل المنهج وهو قوام الحياة المعنوية - أَوْلَى من قِوام الحياة المادية . إذن : فلتكُنْ مؤدباً مع الكون من حولك ، فإذا لم تستطع أنْ تزيده حُسْناً فلا أقلَّ من أنْ تدعه كما هو دون أنْ تفسده ، وضربنا لذلك مثلاً ببئر الماء قد تعمد إليه فتطمسه ، وقد تبني حوله سوراً يحميه . هذه مسائل خمْس توجَّه بها قوم قارون لنصحه بها ، منها الأمر ، ومنها النهي ، ولا بُدَّ أنهم وجدوا منه ما يناقضها ، لا بُدَّ أنهم وجدوه بَطِراً أَشِراً مغروراً بماله ، فقالوا له : { لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [ القصص : 76 ] . ووجدوه قد نسي نصيبه من الدنيا فَلم يتزود منها للآخرة ، فقالوا له { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا … } [ القصص : 77 ] ، ووجدوه يضنُّ على نفسه فلا ينفق في الخير ، فقالوا له : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ … } [ القصص : 77 ] يعني : عَدِّ نعمتك إلى الغير ، كما تعدَّت نعمة الله إليك … وهكذا ما أمروه أمراً ، ولا نهوْهُ نهياً إلا وهو مخالف له ، وإلا لَمَا أمروه ولَمَا نهوْهُ . ثم يقول قارون رداً على هذه المسائل الخمس التي توجَّه بها قومه إليه : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ … } .