Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 85-85)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى فرض : ألزم وأوجب وحتَّم . وأصل الفَرْض الحزّ والقطع ، كما تقطع شيئاً بالسكين مثلاً تُسمّى فرضاً لأنها خرجتْ عن طبيعة تكوينها ، كذلك القرآن يُخرج النفس عن طبيعة مُشْتهاها ، ويقطع عليها مشيئتها ، ويردّها إلى مشيئة الله لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا … } [ النور : 1 ] . يعني : حتَّمناها وألزمنا بها ، والإلزام يعني ردّ النفس إلى ما يريده خالقها منها ، بصرْف النظر عما تشتهيه هي ، فقد يأمرها بما تكره ، وينهاها عما تحب . إذن : يقطع سيال النفس لأنها عادة ما تكون أمَّارة بالسوء ، تنظر إلى العاجل ، ولا تهتم بالآجل ولا تعمل له حساباً . فالقرآن منهج الله بافعل ولا تفعل ، هو الذي يكبح جماح النفس ، ويُحدِّد لها مجال مشيئتها لأن الخالق - عز وجل - خلق النفس ، وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير ، ولعمل الشر . وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا : إن الخَلْق جميعاً عبيد الله ، المؤمن منهم والكافر ، وإنْ تأبَّى الكافر على الله في الإيمان ، فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى ، كالمرض والموت وغيره ، ثم أعطانا الله تعالى مجالاً للاختيار ، ليثيب من يُثيب بحق ، ويُعذِّب مَنْ يُعذب بحق . والعاقل حينما يرى أنه مقهور لله في قدريات لا يستطيع منها فكاكاً ، وليس له فيها تصرف ، فيتنازل عن مراده ، وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه ، ويرضى أنْ يكون مُسيَّراً في كل شيء ، وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد . فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من الله إلى مراد الله في الحكم ، وبهذا المنطق يكون الجميع في الآخرة عباداً لأنه لا اختيار لهم ، ويستوي في ذلك المؤمن والكافر ، يوم يقول سبحانه : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . وسُمِّي إنزال القرآن فَرْضاً لما في القرآن من تكاليف ، وهي عادةً ما تكون شاقة على النفس ، أَلاَ ترى قوله تعالى عن الصلاة ، وهي أم العبادات : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] . فلا يعرف منزلتها ومكانتها إلا خاشع لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال : " أرحنا بها يا بلال " ويقول : " وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة " لأنه صلى الله عليه وسلم أحبها وعشقها ، حتى صارت قُرَّة عينه ، ومُنْتهى راحته . إذن : أول ما يفرض التكليف لا بُدَّ أن يكون شاقاً لذلك يحتاج إلى صلاة إيمان وجَلَد يقين ، بحيث تثق في أن العمل الشاق عليك الآن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الآخرة . ويقول تعالى عن القتال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ … } [ البقرة : 216 ] فلا شكَّ أنه مكروه للنفس ، لكن إنِ استحضرت الجزاء ، وعرفتَ أنه : إما النصر ، وإما الشهادة ، فإنه يحلو لك حتى تعشقه ، وتبادر أنت إليه ، كالصحابي في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الأجر وكان في فمه تمرة يمضغها فقال : " أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أقاتل فأُقتل " ؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة القتال . لذلك الحق سبحانه يُضخم الجزاءات في نفس المؤمن ليقبل على العمل بحب وشهوة . ومن هنا يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهوةَ نفْس عندهم : أخشى ألاَّ يُثيبني الله على الطاعة ، لماذا ؟ يقول : لأنني أصبحتُ أشتهيها ، أي : كما يشتهي أهل المعصية المعصية . وحين يصل الإيمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة ، فقد أصبح ربانياً يثق فيما عند الله من الجزاء . " وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمَتْ قدماه ، فلما سألتْه السيدة عائشة : ألم يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " ؟ " ومعنى : { لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ … } [ القصص : 85 ] يعني : يجازيك أفضل الجزاء ، ونزلتْ هذه الآية لما اضطهد أهلُ مكة رسولَ الله وآذوْه ، حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن نصير ، لكنهم لم يكونوا أقلَّ قسوة من أهل مكة ، فعزَّ على رسول الله النصير فيها ، وعاد منكسراً حزيناً لم يجد مَنْ يدخل في جواره ، إلى أن أجاره مطعم بن عدي . وتأمل حين يكون رسول الله بجلالة قدره لا يجد مَنْ يناصره ، أو يُدخله في جواره ، أما الصحابة فلم تكُنْ لهم شوكة بعد ، ولا قوة لحماية رسول الله ، وفي هذه الفترة لاقوا المشاق في سبيل الدعوة ، فحاصرهم الكفار في شِعْب أبي طالب ، وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس ، ومنعوا عنهم الطعام والشراب ، والبيع والشراء ، حتى الزواج ، وحتى اضطروا إلى أكل المخلَّفات وأوراق الشجر . لذلك أمرهم الله بالهجرة ، والهجرة تكون إلى دار أمن ، أو إلى دار إيمان ، إلى دار أمن كالهجرة إلى الحبشة حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبيِّناً حيثية الهجرة إليها : " إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد " يعني : النجاشي ملك الحبشة ، وفعلاً صدق فيه قول رسول الله ، فلما أرسلتْ قريش في إثرهم مَنْ يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة ، رفض أن يسلمهم ، وأن يُمكِّن قريشاً منهم ، مع أن هدايا قريش كانت عظيمة ، والإغراء كان كبيراً . وهذا يدل على عظمة رسول الله ، وعلى فكره الواسع ، وعلى دراسة الخريطة من حوله ، ومعرفة مَنْ يصلح لهجرة صحابته إليه ، فاختياره ملك الحبشة لا يأتي إلا إما بإلهام من الله ، أو بذكاء كبير ، وهو رجل أمي في أمة أمية ، ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على صدق مقولة رسول الله . ونتيجة " لا يظلم عنده أحد " فقد شرَّفه الله بالإسلام فأسلم ووكَّله رسول الله في أن يُزوِّجه من السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت رضي الله عنها من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة مع زوجها الذي تنصَّر هناك ، وبقيتْ هي على دينها وتمسكتْ بعقيدتها . وفي هذا دليل أولاً : على مدى ما كان يلاقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين ، ثانياً : دليل على الطاعة الواعية للزوج ، فقد آثرت الخروج مع زوجها لا عِشْقاً له ، ولا هياماً به ، إنما فراراً معه بدينها لذلك لما تنصَّر لم تتردد في تركه لذلك طلبها رسول الله لنفسه ، ثم لما مات النجاشي صلى عليه رسول الله وترحَّم عليه . هذه هي هجرة الإيمان إلى دار الأمن . ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار الإيمان ، إلى المدينة ، بعد بيعة العقبة الأولى والثانية ، وبعد أن وجد رسول الله أنصاراً يتحملون معه أعباء الدعوة ، وقد ضرب الأنصار في المدينة أروع مَثَل في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية . ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته ، فلا يضِنّ على غيره بما يملك ، فتعطيني سيارتك أركبها ، أو بيتك أسكن فيه ، أو ثوبك ألبسه ، وأتقمَّش به ، أما الزوجة فتظل مصونة لا يجرؤ أحد على النظر إليها . لكن كان للأنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حيث أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء حتى في زوجاتهم ، فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلادهم ، وراعوا غربتهم وما لهم من إرْبة وحاجة للنساء . فكان الواحد منهم يقول لأخيه : انظر إلى زوجاتي ، فأيتهنّ أعجبتك أُطلِّقها ، وتتزوجها أنت ، هذه تضحية لا نجد لها مثيلاً في تاريخ الناس حتى عند الكفرة . ثم أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ، فخرج خُفْية في حين خرج عمر مثلاً جهراً وعلانية ، حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه : مَنْ أراد أنْ تثكله أمه ، أو يُيتم ولده ، أو تُرمَّل زوجته فليلْقني خلف هذا الوادي . أما رسول الله فقد خرج خُفْية ، وهذه المسألة يقف عندها البعض أو تَخْفى عليه الحكمة منها ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً أُسْوة للضعيف ، أما القوي فلا يحتاج إلى حماية أحد ، ولا عليه إنْ خرج علانية لذلك لا يستحي أحد أن يتخفى كما تخفى رسول الله . ثم إنك حين تتأمل : نعم خرج رسول الله خُفْية لكنها خُفْية التحدي ، فقد خرج من بين فتيانهم المتربصين به ، وعفَّر وجوههم بالتراب ، وهو يقول : " شاهت الوجوه " . ومع ذلك لم يمنعه تأييد الله له أنْ يأخذ بأسباب النجاة ، فخالف الطريق لأن كفار مكة كانوا يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع الأنصار لذلك ترصدوا له على طريقها ، وأرسلوا العيون للبحث عنه ، وجعلوا جُعْلاً لمن يأتيهم به صلى الله عليه وسلم . والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف ، كأن الله تعالى يريد أنْ يُعلِّمنا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نهمل الأسباب ، وألاَّ نتصادم مع الواقع ما دُمْنا قادرين على ذلك . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهي بلده ، وأحب البلاد إلى قلبه قال : " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ ، فأسكنِّي أحب البلاد إليك " . لذلك إنْ كانت مكةُ محبوبةً لرسول الله ، فالمدينة محبوبة لله لذلك بعد أن خرج رسول الله من مكة وقارب المدينة حَنَّ قلبه إلى مكة ، فطمأنه ربه بهذه الآية : { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ … } [ القصص : 85 ] . فالذي فرض عليك مشقة التكاليف ، وحمَّلك مشاق الدعوة والإقناع بها ، وتنفيذ أحكامها ، هو الذي سيردُّك إلى بلدك ردَّ نصر ، وردّ فتح ، وما أشبهَ ردِّ رسول الله إلى بلده بردِّ موسى عليه السلام إلى أمه في قوله تعالى لأم موسى : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ … } [ القصص : 7 ] ليس رَدَّاً عادياً ، إنما { وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . إذن : سيُردُّ إليك ولدك ، لكن سيُرد رسولاً منتصراً . وكما صدق الله في ردِّ موسى يصدق في ردِّ محمد . ومعنى { مَعَادٍ … } [ القصص : 85 ] ليس هو الموعد كما يظن البعض ، إنما يراد به المكان الذي تعود إليه بعد أن تفارقه ، فالمعنى : سنردُّك إلى المكان الذي تحِنُّ إليه ، ويتعلق به قلبك . أو نردك إلى معاد أي : إلينا ، كما قال تعالى : { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] ولا مانع من إرادة المعنيين معاً . ثم يقول سبحانه : { قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ القصص : 85 ] الحق تبارك وتعالى يعلِّم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الجدل العفيف ، لا الجدل العنيف ، يُعلِّمه كيف يردُّ على ما قالوا عن الذي يؤمن به صبأ فلان يعني : خرج عن دين آبائه وهم يعتقدون أنه الحق ، فكأن الذي يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل . إذن : فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل ، كما قال سبحانه : { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ النحل : 125 ] لأن الجدل العنيف يزيد خصمك عناداً ولجاجة ، أمّا الجدل العفيف فيستميل القلوب ويعطفها نحوك لذلك يرد رسول الله بقوله : { قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ القصص : 85 ] أي : جاء بالهدى من عند الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ القصص : 85 ] . ثم يعطي الحق - تبارك وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم دليلاً من واقع حياته ليطمئن على أنه مُؤيَّد من ربه ، وأنه سبحانه سيفي له بما وعد ، ولن يتخلى عنه ، وكيف يختاره للرسالة ، ثم يتخلى عنه ؟