Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 16-16)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الواو هنا لعطف الجمل ، فالآية - معطوفة على { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً … } [ العنكبوت : 14 ] إذن : فنوح وإبراهيم واقعتان مفعولاً به للفعل أرسلنا ، وللسائل أنْ يسأل : لماذا لم تُنوَّن إبراهيم كما نُوِّنت نوح ؟ لم تُنوَّن كلمة إبراهيم لأنها اسم ممنوع من الصرف - أي من التنوين - لأنه اسم أعجمي . ونلحظ في هذه المسألة أن جميع أسماء الأنبياء أسماء أعجمية تُمنع من الصرف ، ما عدا الأسماء التي تبدأ بهذه الحروف صن شمله وهي على الترتيب : صالح ، نوح ، شعيب ، محمد ، لوط ، هود . فهذه الأسماء مصروفة مُنوَّنة ، عليهم جميعاً الصلاة والسلام . والمعنى : { وَإِبْرَاهِيمَ … } [ العنكبوت : 16 ] يعني : واذكر إبراهيم { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ … } [ العنكبوت : 16 ] وقلنا : العبادة أنْ يطيع العابدُ المعبودَ في أوامره ونواهيه ، إذن : لو جاء مَنْ يدَّعي الألوهية ، وليس له أمر نؤديه ، أو نهي نمتنع عنه فلا يصلح إلهاً . لذلك كذب الذين قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ … } [ الزمر : 3 ] لأنهم ما عبدوا الأصنام إلا لأنها ليست لها أوامر ولا نواه ، فألوهيتهم منظرية بلا تكليف ، فأول الأدلة على بطلان عبادة هذه الآلهة المدَّعاة أنها آلهة بلا منهج . ثم عطف الأمر { وَٱتَّقُوهُ … } [ العنكبوت : 16 ] على { ٱعْبُدُواْ … } [ العنكبوت : 16 ] والتقوى من معانيها أنْ تطيع الأوامر ، وتجتنب النواهي ، فهي مرادفة للعبادة ، لكن إنْ عطفت على العبادة فتعني : نفِّذوا الأمر لتتقوا غضب الله ، اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية . وسبق أنْ قلنا : إن لله تعالى صفات جلال : كالقهار ، الجبار ، المنتقم ، المذلّ … إلخ . وصفات جمال : كالغفار ، الرحمن ، الرحيم ، التواب ، وبالتقوى تنال متعلقات صفات الجمال ، وتمنع نفسك وتحميها من متعلقات صفات الجلال . وقوله تعالى : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 16 ] ذلكم ، أي ما تقدَّم من الأمر بالعبادة والتقوى خير لكم ، فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلا خيرَ في علمكم ، كما قال تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الروم : 6 - 7 ] . فالعلم الحقيقي هو العلم بقضايا الآخرة ، العلم بالأحكام وبالمنهج الذي يعطيك الخير الحقيقي طويل الأمد على خلاف علم الدنيا فإنْ نلتَ منه خيراً ، فهو خير موقوت بعمرك فيها . وسبق أنْ قُلْنا : إن العلم هو إدراك قضية كونية تستطيع أن تدلل عليها ، وهذا يشمل كل معلومة في الحياة . أي : العلم المادي التجريبي وآثار هذا العلم في الدنيا ، أما العلم السامي الأعلى فأنْ تعلم المراد من الله لك ، وهذا للآخرة . واقرأ في ذلك مثلاً قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ فاطر : 27 - 28 ] . فذكر سبحانه علم النبات والجماد و { وَمِنَ ٱلنَّاسِ … } [ فاطر : 28 ] أي : علم الإنسانيات { وَٱلدَّوَآبِّ … } [ فاطر : 28 ] علم الحيوان ، وهكذا جمع كل الأنواع والأجناس ، ثم قال سبحانه : { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ … } [ فاطر : 28 ] مع أنه سبحانه لم يذكر هنا أيَّ حكم شرعي . إذن : المراد هنا العلماء الذين يستنبطون قضية يقينية في الوجود ، كهذه الاكتشافات التي تخدم حركة الحياة ، وتدلُّ الناس على قدرة الله ، وبديع صُنْعه تعالى ، وتُذكِّرهم به سبحانه . وتأمل في نفسك مثلاً وَضْع القصبة الهوائية بجوار البلعوم ، وكيف أنك لو شرقت بنصف حبة أرز لا تستريح إلا بإخراجها ، وتأمل ، وَضْع اللهاة وكيف تعمل تلقائياً دون قَصْد منك أو تحكم فيها . تأمل الأهداب في القصبة الهوائية ، وكيف أنها تتحرك لأعلى تُخرج ما يدخل من الطعام لو اختلَّ توازن اللهاة ، فلم تُحكِم سدَّ القصبة الهوائية أثناءَ البلع . تأمل حين تكون جالساً مطمئناً لا يقلقك شيء ، ثم في لحظة تجد نفسك محتاجاً لدورة المياه ، ماذا حدث ؟ ذلك لأن في مجرى الأمعاء ما يشبه السقاطة التي تُخرج الفضلات بقدر ، فإذا زادتْ عما يمكن لك تحمله ، فلا بُدَّ من قضاء الحاجة والتخلص من هذه الفضلات الزائدة . تأمل الأنف وما فيه من شعيرات في مدخل الهواء ومُخَاط بالداخل ، وأنها جُعلت هكذا لحكمة ، فالشعيرات تحجز ما يعلَق بالهواء من الغبار ، ثم يلتقط المخاط الغبارَ الدقيق الذي لا يعلق بالشعيرات ليدخل الهواء الرئتين نقياً صافياً ، تأمل الأذن من الخارج وما فيها من تعاريج مختلفة الاتجاهات ، لتصدَّ الهواء ، وتمنعه من مواجهة فتحة الأذن . والآيات في جسم الإنسان كثيرة وفوق الحَصْر ، ولا سبيلَ إلى معرفتها إلا باستنباط العلماء لها ، وكشفهم عنها ، وهذا من نشاطات الذهن البشري ، أما العلم الذي يخرج عن نطاق الذِّهْن البشري فهو نازل من أعلى ، وهو قانون الصيانة الذي جعله الخالق سبحانه لحماية الخَلْق ، فالذي يأخذ بالعلم الدنيوي التجريبي فقط يُحرَم من الخير الباقي لأن قصارى ما يعطيك علم المادة في البشر أنْ يُرفه حياتك المادية ، أمّا علم الآخرة فيُرفِّه حياتك الدنيا ويبقى لك في الآخرة . إذن : فقوله تعالى : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ … } [ العنكبوت : 16 ] أي : قانون الصيانة الرباني بافعل كذا ولا تفعل كذا ، وإياك أنْ تنقل مدلول افعل في لا تفعل أو مدلول لا تفعل في افعل ، وقد شبَّهنا هذا القانون بالكتالوج الذي يجعله الصانع لحماية الصنعة المادية لتؤدي مهمتها على أكمل وجه ، كذلك منهج الله بالنسبة للخَلْق ، فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلن ينفعكم علم بعد ذلك . يقول سبحانه : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . إذن : فالخير الباقي هو الخير في الآخرة . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً … } .