Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 17-17)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ … } [ العنكبوت : 17 ] أي : على حَدِّ زعمهم ، وعلى حَدِّ قولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ … } [ الزمر : 3 ] ، وإلا فلا عبادة لهذه الآلهة ، حيث لا أمر عندهم ولا نهي ولا منهج ، فعبادتهم إذن باطلة . وهم يعبدون الأوثان من دون الله فإنْ ضُيِّق عليهم الخِنَاق قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ … } [ الزمر : 3 ] فهم بذلك مشركون ، ومن لم يَقُلْ بهذا القول فهو كافر . والوثن : ما نُصِب للتقديس من حجر ، أياً كان نوعه : حجر جيري ، أو جرانيت ، أو مرمر . أو كان من معدن : ذهب أو فضة أو نحاس … إلخ أو من خشب ، وقد كان البعض منهم يصنعه من العجوة ، فإنْ جاع أكله ، وقد حَكَى هذا على سبيل التعجُّب سيدنا عمر رضي الله عنه . وبأيِّ عقل أو منطق أنْ تذهب إلى الجبل وتستحسن منه حجراً فتنحته على صورة معينة ، ثم تتخذه إلهاً تعبده من دون الله ، وهو صَنْعة يدك ، وإنْ أطاحتْ به الريح أقمتَه ، وإنْ كسرته رُحْت تُصلح ما تكسَّر منه وتُرمِّمه ، فأيُّ عقل يمكن أن يقبل هذا العمل ؟ لذلك يخاطبهم القرآن : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [ الصافات : 95 ] وكلما تقدَّم العالم تلاشتْ منه هذه الظاهرة لأنها مسألة لم تَعُدْ تناسب العقل بأية حال . ومعنى { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً … } [ العنكبوت : 17 ] أي : توجدون ، والإيجاد يكون من عدم ، فهم يُوجدون من عدم ، لكن أيُوجدون صِدْقاً ؟ أم يُوجدون كذباً ؟ إنهم يُوجدون { إِفْكاً … } [ العنكبوت : 17 ] والإِفك تعمُّد الكذب الذي يقلب الحقائق ، ومن ذلك قوله سبحانه : { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } [ النجم : 53 ] أي : القرى التي كفأها الله على نفسها . وسبق أن أوضحنا أن الحقيقة هي القضية الصادقة التي توافق الواقع ، فلو قُلْت مثلاً : محمد كريم ، فلا بُدَّ أن هناك شخصاً اسمه محمد وله صفة الكرم ، فإنِ اختلف الواقع فلم يوجد محمد أو وُجِد ولم تتوفر له صفة الكرم ، فالقضية كاذبة لأنها مخالفة للواقع ، هذا هو الإفك . فالحق سبحانه لا يعيب عليهم الخَلْق لأنه أثبت للعباد خَلْقاً ، فقال سبحانه : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] . والفَرْق أنك تخلق من موجود ، أما الحق سبحانه فيخلق من العدم ، فأنت تُوجِد الثوب من القطن مثلاً ، وكوبَ الزجاج من الرمل ، والمحراث من الحديد … إلخ فأوجدت معدوماً عن موجود سابق ، أما الخالق سبحانه فأوجد معدوماً عن لا موجود . وسبق أنْ أوضحنا أن صَنْعة البشر تجمد على حالها ، فالسكين مثلاً يظل سكيناً فلا يكبر ، حتى يصير ساطوراً مثلاً ، والكوب لا يلد لنا أكواباً أخرى . لكن خِلْقة الله سبحانه لها صفة النمو والحياة والتكاثر … إلخ لذلك أنصفك الله فوصفك بأنك خالق ، لكن هو سبحانه أحسن الخالقين . إذن : الحق سبحانه لا يعيب على هؤلاء أنهم يخلقون ، إنما يعيب عليهم أنْ يخلقوا إفْكاً وكذباً . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ … } [ العنكبوت : 17 ] في موضع آخر بيَّن لهم الحق سبحانه أنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع ، وهنا يذكر مسألة مهمة هي استبقاء الحياة للإنسان بالقُوت الذي نسميه الرزق ، فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا تملك لكم رزقاً ، ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الأرض لمتُم من الجوع . إذن : كان عليكم أنْ تتأملوا : من أين تأتي مقومات حياتكم ، ومَنْ صاحب الفضل فيها ، فتتوجَّهون إليه بالعبادة والطاعة ، كما نقول في المثل اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي إنما أُطعمك وتسمع لغيري ؟ ! ! والرزق هو الشُّغل الشاغل عند الناس ، ففي أول الأمر كلنا يجتهد لنأكل ونشرب ونعيش ، فلما تتحسَّن الأمور نرغب في التخزين للمستقبل ، فالموظف مثلاً يدخر لشهر ، والزارع يدخر للعام كله . ومن أعاجيب هذه المسألة أنك تجد الإنسان والفأر والنمل هم الوحيدون بين مخلوقات الله التي تدخر للمستقبل ، أما بقية الحيوانات فتأخذ حاجتها من الطعام فقط ، وتترك الباقي دون أنْ تهتمَّ بهذه المسألة ، أو تُشغَل برزق غد أبداً ، لا يأكل أكثر من طاقته ، ولا يدخر شيئاً لغده . لذلك يُذكِّر الله عباده بمسألة الرزق لأهميتها في حياتهم ، ومن عجيب أمر الرزق أنه أعرَفُ بمكانك وعنوانك ، منك بمكانه وعنوانه ، فإنْ قُسِم لك الرزق جاءك يطرق عليك الباب ، وإنْ حُرمت منه أعياك طلبه . ومن أوضح الأمثلة على أن الرزق مقسوم مقدَّر من الله لكل منا أن المرأة حين تحمل يمتنع عنها الحيض الذي كان يأتيها بشكل دوريٍّ قبل الحمل ، فأين ذهب هذا الدم ؟ هذا الدم هو رزق الجنين في بطن أمه لا يأخذه ولا يستفيد به غيره حتى الأم . فإنْ قُدِّر الجنين تحول هذا الدم إلى غذاء له خاصة ، فإنْ لم يُقدَّر للأم أنْ تحمل نزل منها هذا الدم على صورة كريهة ، لا بُدّ من التخلص منه لأنه ضار بالأم إنْ بقي لا بُدَّ من نزوله ، لأنه ليس رزقها هي ، بل رزق ولدها في أحشائها ، ولو لم يكُنْ هذا الدم رِزْقاً للجنين لكانت الأم تضعف كلما تكرَّرت لها عملية نزول الدم بهذه الصورة الدورية . إذن : لكل منا رِزْق لا يأخذه غيره . لذلك يقول أحد الصالحين : عجبتُ لابن آدم يسعى فيما ضُمِن له ويترك ما طُلِب منه . فربك قد ضمن لك رزقك فانظر إلى ما طُلِب منك ، واشغل نفسك بمراد الله فيك لذلك نتعجب من هؤلاء المتسولين الذين كنا نراهم مثلاً في مواسم الحج ، وشرُّهم مَنْ يعرضون عاهاتهم وعاهات أبنائهم على الناس يتسولون بها ، وكأنهم يشتكون الخالق للخَلْق ، ويتبرَّمون بقضاء الله ، والله تعالى لا يحب أن يشكوه عبده لخلقه . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا بليتم فاستتروا " ووالله لو ستر أصحاب البلاء بلاءهم ، وقعدوا في بيوتهم لَساقَ الله إليهم أرزاقهم إلى أبوابهم . إذن : الرزق مضمون من الله لذلك يمتنُّ به على عباده وينفيه عن هذه الآلهة الباطلة { لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ … } [ العنكبوت : 17 ] ثم يقول سبحانه : { وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] فإنْ لم تعبدوه لأنه يرزقكم ويطعمكم ، فاعبدوه لأن مرجعكم إليه ووقوفكم بين يديه . وكان يكفي أن نعمه عليكم مُقدَّمة على تكليفه لكم ، لقد تركك تربع في نعمه دون أنْ يُكلِّفك شيئاً ، إلى أنْ بلغتَ سِنَّ الرشد ، وهي سِنُّ النُّضْج والبلوغ والقدرة على إنجاب مثلك ، ثم بعد ذلك تقابل تكليفه لك بالجحود ؟ إن عبادة الله وطاعته لو لم تكن إلا شُكْراً له سبحانه على ما قدَّمه لك لكانت واجبة عليك . وقوله تعالى : { وَٱشْكُرُواْ لَهُ … } [ العنكبوت : 17 ] لأن ربكم عز وجل يريد أن يزيدكم ، فجعل الشكر على النعمة مفتاحاً لهذه الزيادة ، فقال سبحانه : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] فربُّك ينتظر منك كلمة الشكر ، مجرد أن تستقبل النعمة بقولك الحمد لله فقد وجبت لك الزيادة . حتى أن بعض العارفين يرى أن الحمد لا يكون على نِعَم الله التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى فحسب ، إنما يكون الحمد لله على أنه لا إله إلا الله ، وإلا لو كان هناك إله آخر لَحِرْنا بينهما أيهما نتبع ، فالوحدانية من أعظم نعم الواحد سبحانه التي تستوجب الشكر . وقد أعطانا الحق سبحانه مثلاً لهذه المسألة بقوله سبحانه : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ … } [ الزمر : 29 ] يعني : مملوك لشركاء مختلفين ، وليتهم متفقون { وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ … } [ الزمر : 29 ] أي : مِلْك لسيد واحد { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً … } [ الزمر : 29 ] فكذلك الموحِّد لِلّه ، والمشرك به . ولذلك يقول بعض الصالحين في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ … } [ البقرة : 172 ] فاللص الذي يأكل من الحرام يأكل رزقه ، فهو رزقه لكنه من الحرام ، ولو صبر على السرقة لأكله من الحلال ولسَاقه الله إليه . فالمعنى أن الله خلقكم ورزقكم ، ولا يعني هذا أنْ تُفلِتوا منه ، فإنْ لم تُراعوا الجميل السابق فخافوا مما هو آتٍ .