Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 19-19)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الخطاب هنا مُوجَّه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم : هؤلاء الذين كذبوا من قبل ، وأنتم الذين تكذبون الآن ، فأين عقولكم ؟ لو استعملتم عقولكم في تأمل الكون الذي تعيشون فيه ، والذي طرأتُم عليه ، وقد أُعِدَّ لكم بكل مُقوِّمات حياتكم . { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ … } [ العنكبوت : 19 ] ويرى هنا بمعنى يعلم ، كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] أي : ألم تعلم لأن رسول الله لم يَرَ حادثة الفيل ، وعدل عن تعلم إلى ترى ليلفت أنظارنا إلى أن إخبار الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أوثق له من رؤيته بعينه . ومن ذلك قول الصِّدِّيق أبي بكر لما سمع بحادث الإسراء والمعراج قال : " إنْ كان قال فقد صدق " . والهمزة في { أَوَلَمْ يَرَوْاْ … } [ العنكبوت : 19 ] استفهام للتقرير ، كما تقول لولدك : ألم تَرَ إلى فلان الذي أهمل دروسه ، تريد أنْ تنكر عليه أنْ يُهمل هو أيضاً ، فتقرره بعاقبة الإهمال ، وتدعه ينطقه بلسانه ، فيقول لك : الذي أهمل دروسه رَسَب . وكما تقول لمَنْ أنكر جميلك : ألم أُحسِن إليك بكذا وكذا ، فيُقِر بها هو بدل أنْ تعددها له أنت ، فهذا أبلغ في الاعتراف . فساعة يأتي بعد الهمزة نَفْي يسمونه استفهاماً إنكارياً ، تنكر ما هم عليه ، وتريد أن تقررهم بما يقابله . والنفي بعد الإنكار نفي للنفي ، ونفي النفي إثبات . فالمعنى : أيكذبون ولم يَرَوْا ما حدث للأمم المكذِّبة من قبل ؟ أيكذبون ولم يَروْا آيات الله ، وقدرته شائعة في الوجود كله ؟ لقد كان عليهم أن ينظروا نظرة اعتبار ليعلموا مَنْ خلق هذا الخَلْق ، وإنك لو سألتهم : مَنْ خلق هذا الكون لا يجدون جواباً ، ولا يملكون إلا أنْ يقولوا : الله ، كما حكى القرآن : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ لقمان : 25 ] . لكن ، كيف يُقِرُّون بهذه الحقيقة ويعترفون بها ، مع أنهم كافرون بالله ؟ قالوا : لأنها مسألة أظهر مَن أنْ ينكرها منكر ، فكل صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه ، بل وينسب إلى نفسه ما لم يصنع ، فما بالك بكَوْنِ أُعِدَّ بهذه الدقة وبهذه العظمة ، ولم يدعه أحد لنفسه ؟ والدعْوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُمْ لها معارض . لذلك قلنا : إن الحق سبحانه قبل أن يقول لا إله إلا أنا ، وقبل أن يطلبها منا شهد بها لنفسه تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] لأن هذه الشهادة هي التي ستجعله يقول للشيء : كُنْ فيكون ، ولو لم يكُنْ يؤمن بأنه إله ما قالها . والحق سبحانه يقول : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ … } [ العنكبوت : 19 ] كيف ونحن لم نَر الإعادة ، فضلاً عن رؤيتنا للبدء ؟ قالوا : نرى البدء والإعادة في مظاهر الوجود من حولنا ، فنراها في الزرع مثلاً ، وكيف أن الله تعالى يُحيي الأرض بالنبات ، ثم يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه الحَبّ أو البذور التي تعيد الدورة من جديد . والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألواناً بديعة ورائحة زكية ، فإذا قُطِفَتْ تبخَّر منها الماء ، فجفَّتْ وتفتتت ، وذهبت رائحتها في الجو ، ثم تخلفها وردة أخرى جديدة ، وهكذا . انظر مثلاً إلى دورة الماء في الكون : هل زادتْ كمية الماء التي خلقها الله في الكون حين أعدَّه لحياة الإنسان منذ خلق آدم وحواء ؟ الماء هو هو حتى الآن ، مع ما حدث من زيادة في عدد السكان لأن عناصر الكون هي هي منذ خلقها الله ، لكن لها دورة تسير فيها بين بَدْء وإعادة . واقرأ إن شئت قوله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 9 - 10 ] . فكأن قوت العالم من الزرع وغيره مُعَدٌّ منذ بَدْء الخليقة ، وإلى أنْ تقوم الساعة لا يزيد ، لكنه يدور في دورة طبيعية . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [ العنكبوت : 19 ] أيهما : الخَلْق أم الإعادة ؟ أما الخلق فقد أقرُّوا به ، ولا جدالَ فيه ، إذن : فالكلام عن الإعادة ، وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق ؟ الخَلْق الأول من عدم ، أما الإعادة فمن موجود ، فأيهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم ؟ لذلك يقول سبحانه : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … } [ الروم : 27 ] مع أن الحق سبحانه لا يُقال في حَقِّه : هذا هيِّن ، وهذا أهون لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا . ثم يخاطب الحق سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ … } .