Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 24-24)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كنا ننتظر منهم جواباً منطقياً ، بعد أنْ دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وبيَّن لهم بطلان عبادة آلهتهم ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، كان عليهم أن يجادلوه ، وأن يدافعوا عن آلهتهم ، وأن يُظهِروا حجتهم في عبادتهم . إنما يأتي جوابهم دالاً على إفلاسهم { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ … } [ العنكبوت : 24 ] أهذا جواب على ما قيل لكم ؟ إنه مجرد هروب من المواجهة ، وإفلاس في الحجة ، إنه جواب مَنْ لم يجد جواباً ، وليس لديه إلا التهديد والتلويح بالقوة وبالبطش ، فهذه لغة مَنْ لا حجة عنده . لكن ، لماذا سمَّاه القرآن جواباً ؟ قالوا : لأنهم لو لم يتكلموا بهذا الكلام لقيل عنهم أنهم لم يلتفتوا إلى كلام نبيهم ولم يأبهوا به ، وأن كلامه لا وزنَ له ، ولا يُرَد عليه ، فإنْ كان كلامهم لا يُعَد جواباً فهو في صورة الجواب ، وإنْ كان جواباً فاسداً . وقولهم : { ٱقْتُلُوهُ … } [ العنكبوت : 24 ] نعلم أن القتل هو هدم البنية هدماً يتبعه خروج الروح لأنها لا تجد بنية سليمة تسكنها ، أما الموت فتخرج الروح أولاً ، ثم تهدم البنية حين تتحلل في التراب ، إذن : فهما سواء في أنهما هلاك . وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي تضيء ، فالكهرباء لا توجد في اللمبة ، إنما في شيء خارج عنها ، لكن يظهر أثر الكهرباء في اللمبة إنْ كانت سليمة صالحة لاستقبال التيار ، فإنْ كسرتها فلا تجد فيها أثراً للكهرباء ولا تضيء ، وقد تمنع عنها الكهرباء وهي سليمة . ثم قالوا { أَوْ حَرِّقُوهُ … } [ العنكبوت : 24 ] وهل التحريق بعد القتل يُعَد ارتقاءً في العقوبة ؟ لا شكَّ أن القتل أبلغ من التحريق ، فقد يُحرق شخص ، وتتم نجدته وإسعافه فلا يموت ، فالقتل تأكيد للموت ، أمّا التحريق فلا يعني بالضرورة الموت ، فلماذا لم يقولوا فقط اقتلوه وتنتهي المسألة ، أو يُصعدوا العقوبة فيقولوا : حرِّقوه أو اقتلوه ؟ إنهم بدأوا بأقصى ما عندهم من عقوبة لشدة حَنَقهم عليه فقالوا { ٱقْتُلُوهُ … } [ العنكبوت : 24 ] ثم تراءى لهم رأي آخر : ولماذا لا نحرقه بالنار ، فربما يعود ويرجع عن دعوته حينما يجد ألم التحريق ، وهذا يُعَد كسباً لهم ، وتُحسَب الجولة لصالحهم . لكن مَن الذي قال { ٱقْتُلُوهُ … } [ العنكبوت : 24 ] ؟ من الآمر بالقتل ، ومَنِ المأمور ؟ لقد اتفقوا جميعاً على قتله ، فالآمر والمأمور سواء ، وهذا واضح من الآية : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ … } [ العنكبوت : 24 ] فالقوم جميعاً تواطئوا على هذه المسألة . أو أن الآمر هم رؤساء القوم وكبارهم الذين يأتمر الناس بأمرهم ، أما التنفيذ فمهمة الأتباع . ونحن نرى ثورة الجمهور وانفعاله حينما تقع جريمة مثلاً ، فالكل يغضب ويقول : اقتلوه ، اسجنوه ، فكلهم قائل ، وكلهم مقول له . ثم يقول سبحانه { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ … } [ العنكبوت : 24 ] وهنا يعترض الفلاسفة : كيف والنار من طبيعتها الإحراق ؟ كيف يتخلف هذا القانون ؟ لكن كيف تكون معجزة إنْ لم تأْتِ على هذه الصورة ؟ إن الحق سبحانه خلق الخَلْق وجعل فيه نواميس تفعل فعلها وتؤدي مهمتها تلقائياً ، فالأرض مثلاً حينما تحرثها ، وتلقى فيها الحَبَّ ، ثم ترويها ، الناموس أن تنبت ، وحتى لا يظن ظانٌّ أن الكون إنما يسير على وَفْق هذه النواميس ، لا وَفْقَ قدرة الله نجد أنه سبحانه يخرق هذه النواميس ليثبت لنا قيوميته على خَلْقه وطلاقة قدرته فيه . لذلك إن لم يكُنْ لك رزق في حرثك هذا ، فلا ينبت النبات ، أو ينبت ثم تصيبه آفة أو إعصار فيُهلكه قبل استوائه . إذن : فالمسألة قيومية لله تعالى وليست ميكانيكا . وقد خرق الله نواميس الكون لموسى - عليه السلام - حينما ضرب البحر ، فصار كل فِرْق كالطَّوْد العظيم ، وتحولت سيولة الماء إلى جبل صلب . وخرق نواميس الكون لإبراهيم حينما قال للنار : { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [ الأنبياء : 69 ] . وخرق النواميس ليثبت الإعجاز ، وليثبت أن يد الله تعالى لا تزال مسيطرة على مُلْكه سبحانه ، لا أنه خلق النواميس وتركها تعمل في الكون دون تدخُّل منه سبحانه كما يقول الفلاسفة ، فالحق سبحانه خلق النواميس لتفعل ، ولكن قيوميته تعالى وقدرته تُعطِّل النواميس . { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 24 ] ونذكر في قصة السفينة أن الله تعالى قال عنها : { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 15 ] آية وهنا قال { لآيَاتٍ … } [ العنكبوت : 24 ] وهناك قال { لِّلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 15 ] وهنا قال : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 24 ] فالاختلاف إذن بين السياقين في أمرين : قال في السفينة { آيَةً … } [ العنكبوت : 15 ] لأن العجيب في أمر السفينة ليس في صناعتها ، فمَنَ رآها يمكن أنْ يصنع مثلها ، إنما الآية فيها أن الله تعالى أعلمه بها قبل الحاجة إليها ، ثم منع عنها الزوابع والأعاصير أن تلعب بها وتُغرق ركابها . أمّا في مسألة الإحراق فعجائب كثيرة وآيات شتى ، فكان من الممكن ألاَّ يمكنهم الله منه ، وكان من الممكن بعد أن أمسكوا به وألقوه في النار أنْ يُنزل الله مطراً يطفىء نارهم وينجو إبراهيم ، أو يسخر له من القوم أهل رأفة ورحمة ينقذونه من الإلقاء في النار . لكن لم يحدث شيء من هذا ، حيث أمكنهم الله منه حتى ألقوه في النار وهي مشتعلة ، وهو مُوثق بالحبال ، ومع ذلك لم تُصِبه النار بسوء ، وظهرتْ الآيات بينات واضحات أمام أعين الجميع . الأمر الآخر : قال هناك { لِّلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 15 ] لأن السفينة حينما رسَتْ ونجا ركابها ظلَّتْ السفينة باقية في مكانها يراها الناس جميعاً ويتأملونها ، فقد كان لها أثر باقٍ قائم مُشَاهد . أمّا في مسألة إبراهيم - عليه السلام - فقال { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 24 ] لأن نجاة إبراهيم - عليه السلام - كانت عبرة لمن شاهدها فقط ، ونحن نؤمن بها لأن الله أخبرنا بها ، ونحن مؤمنون بالله ، فهي آيات للمؤمنين بالله لا للعالمين . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً … } .