Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 44-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أراد الحق سبحانه أن يبرهن لنا على طلاقة قدرته تعالى ، فقال : { خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ … } [ العنكبوت : 44 ] والخَلْق : إيجاد المعدوم ، لكن الغرض مخصوص ، ولمهمة يؤديها ، فإنْ خلقت شيئاً هكذا كما اتفق دون هدف منه فلا يُعَد خلقاً . ومسألة الخَلْق هذه هي الوحيدة أقرَّ الكفار بها لله تعالى ، فلما سألهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ لقمان : 25 ] فلماذا أقرُّوا بهذه بالذات ؟ ولماذا ألجمتهم ؟ هذا ليس عجيباً منهم لأننا نشاهد كل مَنْ يأتي بجديد في الكون حريصاً على أنْ ينسبه لنفسه ، وعلى أنْ يُبيِّن للناس مجهوداته وخبراته ، وأنه اخترع كذا أو اكتشف كذا ، كالذي اكتشف الكهرباء أو اخترع التليفون أو التليفزيون . ما زِلْنا حتى الآن نذكر أن قانون الطفو لأرشميدس ، وقانون الجاذبية لنيوتن ، والناس تسجل الآن براءات الاختراع حتى لا يسرق أحد مجهودات أحد ، ولتحفظ لأصحاب التفوق العقلي والعبقري ثمرة عبقريتهم . وكذلك كان العرب قديماً يذكرون لصاحب الفضل فَضلْه ، حتى إنهم يقولون : فلان أول مَنْ قال مثلاً : أما بعد . وفلان أول من فعل كذا . إذن : فنحن نعرف الأوائل في كل المجالات ، وننسب كل صنعة وكل اختراع واكتشاف إلى صاحبه ، بل ونُخلِّد ذكراه ، ونقيم له تمثالاً … إلخ . إذن : فما بالك بالخالق الأعظم سبحانه الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما ومَنْ فيهما ، أليس من حقه أن يعلن عن نفسه ؟ أليس من حقه على عباده أن يعترفوا له بالخَلْق ؟ خاصة وأن خَلْق السماوات والأرض لم يدَّعه أحد لنفسه ، ولم ينازع الحق فيه منازع ، ثم جاءنا رسول من عند الله تعالى يخبرنا بهذه الحقيقة ، فلم يوجد معارض لها ، والقضية تثبُت لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض . وقد مثَّلنا لهذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بجماعة جلسوا في مجلس ، فلما انفضَّ جمعهم وجد صاحب البيت محفظة نقود لواحد منهم ، فسألهم : لمن هذه المحفظة ؟ فقالوا جميعاً : ليست لي إلا واحد منهم قال : هي محفظتي ، فهل يشكُّ صاحب البيت أنها لمن ادَّعاها ؟ ولك أنْ تسأل : ما دام الحق سألهم { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } [ لقمان : 25 ] فقالوا الله فلماذا يذكر الله هذه القضية ؟ قالوا : الحق - تبارك وتعالى - لا يريد بهذه الآية أن يخبرنا أنه خالق السماوات والأرض ، إنما يريد أن يخبرنا أن خَلْق السماوات والأرض بالحق ، والحق : الشيء الثابت الذي لا يتغير مع الحكمة المترتبة على كل شيء في الوجود ، فإذا نظرنا إلى خَلْق السماوات والأرض لوجدناه ثابتاً لم يتغير شيء فيه . لذلك يقول سبحانه : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] . فالسماوات والأرض خَلْق هائل عظيم ، بحيث لو قارنته بخَلْق الإنسان لكان خَلْق الإنسان أهون . وانظر مثلاً في عمر السماوات والأرض وفي عمر الإنسان : أطول أعمار البشر التي نعلمها حتى الآن عمر نوح عليه السلام ، وبعد هذا العمر الذي نراه طويلاً انتهى إلى الموت ، فعمر الإنسان معلوم يكون سنة واحدة ، أو ألف سنة لكن لا بُدَّ أن يموت . أما السماوات والأرض وما فيها من مخلوقات إنما خُلقت لخدمة الإنسان ، فالخادم عمره أطول من المخدوم ، فالشمس مثلاً خلقها الله تعالى من ملايين السنين ، وما زالت كما هي لم تتغير ، ولم تتخلف عن مهمتها ، وكذلك القمر : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] . أي : بحساب دقيق لذلك يقولون : سيحدث كسوف مثلاً أو خسوف يوم كذا الساعة كذا ، وفي نفس الوقت يحدث فعلاً كسوف للشمس أو خسوف للقمر مما يدلّ على أنهما خُلِقا بحساب بديع دقيق ، ويكفي أننا نضبط على الشمس مثلاً ساعاتنا ، ومع ما عُرِف عن الشمس والقمر ، من كِبَر حجمهما ، فإنهما يسيران في مسارات وأفلاك دون صدام ، كما قال تعالى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] . هذا كله من معنى خَلْق السماوات والأرض بالحق . أي : بنظام ثابت دقيق منضبط لا يتغير ولا يتخلف في كُلِّ مظاهره ، فأنت أيها الإنسان يمكن أنْ تتغير لأن الله جعل لك اختياراً فتستطيع أن تطيع أو أن تعصي ، تؤمن أو والعياذ بالله تكفر ، لكن خَلْق السماوات والأرض جاء على هيئة القهر والتسخير ، وإن كانت مختارة بالقانون العام والاختيار الأول ، حيث قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . إذن : خُيِّرت فاختارت ألاَّ تختار ، وخرجت عن مرادها لمراد ربها . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ العنكبوت : 44 ] لماذا قال للمؤمنين مع أنها آية للناس جميعاً ؟ وسبق أنْ خاطب الله الكافرين { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } [ لقمان : 25 ] فلماذا خصَّ هنا المؤمنين دون الكافرين ؟ قالوا : هناك فَرْق بين خَلْق السماوات والأرض ، وبين كَوْنها مخلوقة بالحق ، فالجميع يؤمن بأنها مخلوقة ، لكن المؤمنين فقط هم الذين يعرفون أنها مخلوقة بالحق . يقول الحق سبحانه : { ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ … } .