Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 45-45)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن ذكر الله تعالى بعض مواكب الرسل في إبراهيم وفي موسى ونوح وصالح وهود ولوط وفي شعيب ، ثم تكلَّم سبحانه عن الذين كذبوا هؤلاء الرسل { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ … } [ العنكبوت : 40 ] أراد سبحانه أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يزعجه ، ولا يرهقه ، أو يتعب نفسه موقف الكافرين به الذين يصدون عن سبيل الله ، ويقفون من الدعوة موقف العداء . فقال له مُسلِّياً : { ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ … } [ العنكبوت : 45 ] يعني : لِمَ تحزن يا محمد ومعك الأُنْس كله ، الأُنْس الذي لا ينقضي ، وهو كتاب الله ومعجزته التي أنزلها إليك ، فاشتغل به ، فمع كل تلاوة له ستجد سكناً إلى ربك . وإذا كان هؤلاء الذين عاصروك لم يؤمنوا به ، ولم يلتفتوا إلى مواطن الإعجاز فيه فداوم أنت على تلاوته عَلَّ الله يأتي من هؤلاء بذرية تصفو قلوبهم لاستقبال إرسال السماء ، فيؤمنون بما جحده هؤلاء ، والأمر بالتلاوة لبقاء المعجزة . { ٱتْلُ … } [ العنكبوت : 45 ] اقرأ ولا تعجز ولا تيأس ، فالقرآن سلوة لنفسك لأن الذي يرسل رسولاً من البشر بشيء أو في أمر من الأمور ، ثم يكذب يرجع إلى مَنْ أرسله ، فما دام قومك قد كذَّبوك ، فارجع إليَّ بأن تستمع إلى كتابي الذي أنزلتُه معجزة لك تؤيدك ، وانتظر قوماً يأتون يسمعون منك كلام الله ، فيصادف منهم قلوباً صافية ، فيؤمنون به . وفَرْق بين الفاعل والقابل ، والقرآن يُوضِّح هذه المسألة ، فمن الناس مَنْ إذا سمعوا القرآن تخشع له قلوبهم ، وتقشعر جلودهم ، ومنهم مَنْ إذا سمعوه قالوا على سبيل الاستهزاء { مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] تهويناً من شأن القرآن ، ومن شأن رسول الله . ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى … } [ فصلت : 44 ] . إذن : فالقرآن واحد ، لكن المستقبل للقرآن مختلف ، فالعبرة في صفاء الاستقبال لأن الإرسال واحد ، وهل تتهم الإذاعة إنْ كان جهار الراديو عندك معطلاً ، لا يستقبل إرسالها ؟ كذلك مَنْ أراد أن يستقبل إرسال السماء فعليه أنْ يُعِد الأذن الواعية والقلب الصافي غير المشوش بما يخالف إرسال السماء ، عليك أنْ تُخرِج ما في نفسك أولاً من أضداد للقرآن ، ثم تستقبل كلام الله وتنفعل به . وسبق أنْ مثَّلْنا لاختلاف المنفعل للفعل بمَنْ ينفخ في يده وقت البرد بقصد التدفئة ، وبمَنْ ينفخ بنفَسه في الشاي مثلاً ليبرده ، فهذه للحرارة ، وهذه للبرودة ، الفعل واحد ، لكن المنفعل مختلف . فقوله تعالى : { ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ … } [ العنكبوت : 45 ] هذه هي مَيْزة معجزتك يا محمد أنك تستطيع أنْ تكرِّرها في كل وقت ، وأن تتلوها كما تشاء ، وأن يتلوها بعدك مَنْ سمعها ، وستظل تتردد إلى يوم القيامة . أما معجزات الرسل السابقين فكانت خاصة بمَنْ شاهد المعجزة ، فإذا مات مَنْ شهدها فلا يعرفها أحد بعدهم حتى لو كان معاصراً لها ولم يَرَهَا ، فالذين عاصروا مثلاً انقلاب عصا موسى حية ولم يشاهدوا هذا الموقف ، ماذا عندهم من هذه المعجزة ؟ لا شيء إلا أننا نُصدِّقها ونؤمن بها لأن القرآن أخبرنا بها . إذن : فمعجزات السابقين تأتي كلقطة واحدة أشبه ما تكون بعود الكبريت الذي يشتعل مرة واحدة ، رآها مَنْ رآها وتنتهي المسألة ، ولكن القرآن حدثنا بكل معجزات الرسل السابقين فانظر إذن ما أصاب الرسل جميعاً من خيرات سيدنا رسول الله ، وكيف خَلَّد القرآن ذكرهم ، وامتدت معجزاتهم بامتداد معجزته . فكأن القرآن أسدى الجميل إلى كل الرسل ، وإلى كل المعجزات لذلك قال تعالى عن القرآن : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ … } [ المائدة : 48 ] . ثم يقول سبحانه : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ … } [ العنكبوت : 45 ] ومعلوم أن اتْلُ : التلاوة قَوْل من فعل اللسان و { وَأَقِمِ … } [ العنكبوت : 45 ] من فعل الجوارح ، والإنسان له جوارح متعددة اشتهر منها خمس هي : العين للإبصار ، والأذن للسمع ، والأنف للشم ، واللسان للتذوق ، والأنامل للَّمس . فقالوا على سبيل الاحتياط : الجوارح الخمسة الظاهرة وقد ظهر فعلاً مع تقدُّم العلوم اكتشفوا في الإنسان حواسَّ أخرى ووسائلَ إدراك لم تُعرف من قبل ، كحاسة العضل التي تزن بها ثقل الأشياء ، وإلا فبأيِّ حاسة من حواسِّك الخمسة تعرف الثقل قبل أن ترفع الشيء من على الأرض ؟ وكحاسة البَيْن ، والتي بها تستطيع أنْ تُميِّز بين سُمْك الأشياء بين أناملك ، فحين تذهب مثلاً إلى تاجر الأقمشة ، فتتناول القماش بين أناملك و تفركه برفق ، فتستطيع أن تعرف أن هذا أَسْمَك من هذا . ومن عجيب الأمر في مسألة الجوارح أن يأخذ اللسان شطر الجوارح كلها ، ففعل الحواس الخمسة يسمى عملاً ، والعمل ينقسم : إما قول ، وإما فعل . فكل تحريك لجارحة لتؤدي مهمة يسمى عملاً ، لكن عمل اللسان يسمى قولاً ، أما من بقية الجوارح فيسمى فعلاً . فأخذ اللسان هذه المكانة لأن به الإنذار من الحق ، وبه التبشير ، وبه البلاغ من الرسول لذلك يقول الحق سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] . ولم يقل : ما لا تعملون . لأن القول يقابله الفعل ، وهُما معاً عمل ، والعمل بنية القلب . لكن ، لماذا اختار الصلاة من بين أعمال الجوارح ؟ قالوا : لأنها قمة العمل كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلاة عماد الدين " وبها نُفرِّق بين المؤمن والكافر . ويبقى السؤال : لماذا أخذتْ الصلاة هذه المكانة من بين أركان الإسلام ؟ ونحب أنْ نشير هنا إلى أن خصوم الإسلام وبعض أهله الذين يخافون من بعثه أنْ يقضي على سلطتهم وطُغْيانهم وجبروتهم يريدون حَصْر الإسلام في أركانه الخمسة ، فإنْ قُلْت بهذه المقولة لا يتعرضون لك ، وأنت حر في إطار أركان الإسلام هذه ، لكن إياك أن تقول : إن الإسلام جاء ليُنظِّم حركة الحياة لأن حظهم في حَصْر الإسلام في أركانه فقط . وما فَهم هؤلاء أن الأركان ليست هي كل الإسلام ، إنما هي أسُسه وقواعده التي يقوم عليها بناؤه ، لكنهم يريدون أنْ يعزلوا الإسلام عن حركة الحياة . فنقول لهم : نعم ، هذه أركان الإسلام ، أمَّا الإسلام فيشمل كل شيء في حياتنا ، بداية من قمة العقيدة في قولنا : لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى إماطة الأذى عن الطريق لأن الإسلام دين يستوعب كل أقضية الحياة ، كيف لا وهو يُعلِّمنا أبسط الأشياء في حياتنا . ألاَ تراه يهتم بأحكام قضاء الحاجة ودخول الخلاء ، وما يتعلق به من آداب وأحكام ؟ أَلاَ ترى أن صاحب الحِسْبة المكلَّف بمراقبة الأسواق ، وتنفيذ أحكام منهج الله في الأرض إذا رأى جزاراً ينفخ ذبيحته بفمه يقوم بإعدام هذه الذبيحة لأن الهواء المستخدم في نفخها هواء غير صحي ، فهو زفير مُحمَّل بثاني أكسيد الكربون ، وقد يحمل غازات أخرى ضارة لا بُدَّ أنْ تنتقل إلى لحم الذبيحة ؟ كما أن من مهمته أن يمر بالحلاقين ، ويتفقد مدى نظافتهم وسلامتهم من الأمراض ، وإذا اشتم من أحدهم رائحة ثوم أو بصل مثلاً أمره بإغلاق محله ، وعدم العمل في هذا اليوم حتى لا يتأذَّى الناس برائحته . فأيُّ شرع هذا الذي يحافظ على سلامة الناس ومشاعرهم إلى هذا الحدِّ ؟ إنه دين الله ومنهجه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة في حركة الحياة إلا ووضع لها أحكاماً وآداباً . أمِثْل هذا الشرع يُعزل عن حركة الحياة ويُقيّد وينحصر في مسائل العبادات وحدها ؟ إنك حين تنظر إلى متاعب العالم المتخلف الآن - دَعْك من العالم المتقدم - ستجد أن متاعبه اقتصادية ، ولو تقصيْتَ الأسباب لوجدتها تعود إلى التخلي عن منهج الله وتعطيل أحكامه ، ووالله لو أنهم أخذوا في أزمتهم الاقتصادية بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع " . لو عملوا بهذا وتأدَّبوا بأدب رسولهم لخرجوا من هذه الأزمة ، وتقلَّبوا في رَغَد من العيش ، إنك لو تحليْتَ بهذا الأدب في مسألة الطعام والشراب لكفتْك اللقمة واللقمتان ، وأشهى الطعام ما كان بعد جوع مهما كان بسيطاً . أما الآن ، فنرى الناس يلجئون إلى المشهِّيات قبل الطعام ، وإلى المهضِمات بعده ، لماذا ؟ لأنهم خالفوا هَدْي رسولهم صلى الله عليه وسلم ، فهم يأكلون على شِبَع ، ويأكلون بعد الشِّبَع . والحق - تبارك وتعالى - يقول : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ … } [ الأعراف : 31 ] وأُثِر عن العرب الذين عاشوا في شظف من العيش : نِعمْ الإدام الجوع . نعم إنه الغموس الحقيقي ، والمشهِّي الأول . نعود إلى مكانة الصلاة بين العبادات ، ولماذا كانت هي عماد الدين ، ومعنى : " الصلاة عماد الدين " و " بُنِي الإسلام على خمس " أن الدين أشياء أخرى ، وهذه هي أُسُسه وقواعده ، وحين نتتبع هذه القواعد نجد أن الركن الأول ، وهو أشهد ألاّ إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله يمكن أن أقولها ولو مرة واحدة ، أما الزكاة فلا تجب مثلاً على الفقير فلا يزكي ، وكذلك المريض لا يصوم ، والمسافر والحائض … إلخ ، وكذلك الحج غير واجب إلا على المستطيع . إذن : ما هو الركن الثابت الذي يلازم كل مسلم ، ولا يسقط عنه بحال ؟ إنها الصلاة لذلك أخذتْ مساحة كبيرة من الوقت على مدى اليوم والليلة ، وبها يكون إعلان الولاء الدائم لله تعالى ، وبها تفرق بين المؤمن وغير المؤمن ، فإنْ رأيتَ شخصاً مثلاً لا يصوم أو لا يزكي أو لا يحج ، فلك أنْ تقول ربما يكون من أصحاب الأعذار ، ومن غير القادرين ، لكن حين ترى شخصاً لا يُصلِّي ، وقد تكرَّر منه ذلك فإنك لا بُدَّ شاكّ في إسلامه . لذلك استحقت الصلاة هذه المكانة بين سائر العبادات منذ بدايات التشريع ، ألا ترى أن كل فرائض الدين شُرعت بالوحي إلا الصلاة ، فقد شُرعت بالخطاب المباشر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج . وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك ، ولله المثل الأعلى ، برئيس العمل الذي يُصدر أوامره بوسائل مختلفة حَسْب أهمية المأمور به ، فقد يكتفي بأن يُؤشر على ورقة ، وقد يُوصي بها ، أو يطلب الموظف المختص فيُحدِّثه بالتليفون ، فإنْ كان الأمر هاماً استدعاه شخصياً إلى مكتبه وكلَّفه بما يريد . وكان هذا الاستدعاء تشريفاً لسيدنا رسول الله بقرب المرسَل إليه من المرسِل ، فأراد الحق - سبحانه وتعالى - ألاَّ يحرم أمه محمد فضل أسبغه على محمد فكأنه قال : مَنْ أراد من عبادي أنْ يقرب مني كما قرب محمد فكان قاب قوسين أو أدنى فليُصلِّ . ومعنى { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ … } [ العنكبوت : 45 ] إقامة الشيء : أداؤه على الوجه الأكمل الذي يؤدي غايته ، فالصلاة المطلوبة هي الصلاة المستوفاة الشروط والتي تقيمها كما يريدها مُشرِّعها { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ … } [ العنكبوت : 45 ] . والصلاة إذا استوفتْ شروطها نهتْ صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإذا رأيتَ صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فاعلم أنها ناقصة عما أراده الله لإقامتها ، وعلى قَدْر النقص تكون ثمرة الصلاة في سلوك صاحبها ، وكأن وقوعك في بعض الفحشاء وفي بعض المنكر يُعَدُّ مؤشراً دقيقاً لمدى إتقانك لصلاتك وحرصك على تمامها وإقامتها . ومعنى { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ … } [ العنكبوت : 45 ] واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له : " يا رسول الله ، إن فلاناً يصلي ، لكن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر ، فقال : " دعوه ، فإن صلاته تنهاه " " . فالمعنى هنا أن الأمر ليس أمراً كونياً ثابتاً لا يتخلف ، بل هو أمر تشريعي عُرْضة لأنْ يُطاع ، وعُرْضة لأنْ يُعصى ، فلو كان الأمر كونياً ما جرؤ صاحب صلاة عل الفحشاء والمنكر ، ومثال ذلك أن أقول مثلاً لأولادي قبل أن أموت : يا أولادي ، هذا بيت يكرم مَنْ يدخله . كلام على سبيل الخبر ولم أقل : أكرموا مَنْ يدخله ، فالذي يحترم وصيتي منهم يكرم مَنْ يدخل بيتي من بعدي ، والذي لا يحترم الوصية لا يُكرم مَنْ يدخله . أما لو قلت : أكرموا مَنْ يدخل هذا البيت فقد ألزمتَ الجميع بالإكرام . وأوضح من هذا قوله تعالى في شأن المسجد الحرام : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً … } [ آل عمران : 97 ] فلما حدث أن اقتحمه بعض أصحاب الأهواء ، وأطلقوا النار في ساحاته ، وقتلوا فيه الآمنين قامتْ ضجة كبيرة تُشكِّك في هذه الآية : كيف يحدث هذا والله يقول { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً … } [ آل عمران : 97 ] فأقاموا هذه الأحداث دليلاً على كذب الآية والعياذ بالله . وهذا المسلك منهم يأتي عن عدم فهم لمعنى الأمر الكوني والأمر التشريعي ، فقوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً … } [ آل عمران : 97 ] أمر تشريعي قابلٌ لأنْ يُطاع ، ولأنْ يُعصى ، كأن الحق - سبحانه وتعالى - قال : أمِّنُوا مَنْ دخل البيت ، فبعض الناس امتثل للأمر ، فأمَّن مَنْ في البيت الحرام ، وبعضهم عصى فروَّع الناس ، وقتلهم في ساحته ، ولو كان أمراً كونياً ما تخلَّف أبداً كما لم تتخلف الشمس مثلاً يوماً من الأيام . وكذلك الأمر في { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ … } [ العنكبوت : 45 ] فالصلاة تشريع من الله ، فإذا كان الله تعالى هو المشرِّع ، وقال : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَر … } [ النحل : 90 ] يعني : لا يوجد معها فحشاء ولا منكر ، وهذا أيضاً صحيح لأنني حين أدخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام فإن هذه التكبيرة تحرم عليَّ كل ما كان حلالاً لي قبل الصلاة ، ففي الصلاة مثلاً لا آكل ولا أشرب ولا أتحرك ، مع أن هذه المسائل كانت حلالاً قبل الصلاة ، فما بالك بما كان حراماً عليك أصلاً قبل الصلاة ؟ إذن : فهو حرام من باب أَوْلَى . فالصلاة بهذا المعنى تمنعك من الفحشاء والمنكر في وقتها لأن تكبيرة الإحرام الله أكبر تعني أن الله أكبر من كل شيء في الوجود حتى من شهوات النفس ونزواتها ، وإلاَّ فكيف تقيم نفسك بين يدي ربك ، ثم تخالف منهجه ؟ فالصلاة بهذا المعنى تنهى على حقيقتها عن الفحشاء والمنكر . ومعنى الفَحْشَاء كل ما يُسْتفحش من الأقوال والأفعال والمنكَر كل شيء يُنكره الطبع السليم { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ … } [ العنكبوت : 45 ] ذكر : مصدر ، والمصدر يُضاف للفاعل مثل : أعجبني ضَرْب الأمير لزيد ، ويُضاف للمفعول مثل : أعجبني ضَرْب زيد من الأمير ، فحين تقول ذكر الله يصح أن يكون المعنى : ذِكْر صادر من الله ، أو ذِكْر صادر من العبد لله . فإنْ قلتَ : ذِكْر صادر من الله ، أي للمصلِّي ، فحين يصلي الإنسان ، ويذكر الله بالكبرياء في قوله الله أكبر ويُنزِّهه بقول سبحان الله ، ويسجد له سبحانه ويخضع ، فقد فعلتَ إذن فِعْلاً ذكرتَ الله فيه ذِكْراً بالقول والفعل ، والله تعالى يجازيك بذكرك له بأن يذكرك ، فالذكر ذكر من الله لمن ذكره في صلاته . ولا شكَّ أن ذكر الله لك أكبر ، وأعظم من ذِكْرك له سبحانه لأنك ذكرتَ الله منذ بلوغك إلى أن تموت ، أما هو سبحانه فسيعطيك بذكرك له منازل عالية لا نهايةَ لها في يوم لا تموت فيه ولا تنقطع عنك نِعَمه وآلاؤه ، فالمعنى : ولذِكر الله لك بالثواب والرحمة أكبر من ذِكْركَ له بالطاعة . هذا على معنى أن الذكر صادر من الله للعبد . المعنى الآخر أن يكون الذكْر صادراً من العبد لله ، يعني : ولذكْر الله خارج الصلاة أكبر من ذِكْر الله في الصلاة ، كيف ؟ قالوا : لأنك في الصلاة تُعِد نفسك لها بالوضوء ، وتتهيأ لها لتكون في حضرة ربك بعد تكبيرة الإحرام ، فإذا ما انتهتْ الصلاة وخرجتَ منها إلى حركة الحياة فذِكْرك لله وأنت بعيد عن حضرته وأنت مشغول بحركة حياتك أعظم وأكبر من ذِكْرك في الحضرة . ومثال ذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - مَنْ يمدح الأمير ويُثني عليه في حضرته ، ومَنْ يمدحه في غيبته ، فأيُّهما أحلى ، وأيُّهما أبلغ وأصدق في الذكْر ؟ واقرأ في ذلك قوله تعالى عن صلاة الجمعة : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 9 ] . يعني : ذِكْر الله في الصلاة ، ولا تظنوا أن الذكْر قاصر على الصلاة فقط إنما : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] فيجب ألاَّ يغيب ذِكْر الله عن بالك أبداً لأن ذِكْرك لربك خارج الصلاة أكبر من ذِكْرك له سبحانه في الصلاة . ورُوِي عن عطاء بن السائب أن ابن عباس سأل عبد الله بن ربيعة : ما تقول في قوله تعالى : { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ … } [ العنكبوت : 45 ] ؟ فقال : قراءة القرآن حَسَن ، والصلاة حسن ، وتسبيح الله حسن ، وتحميده حسن ، وتكبيره حسن والتهليل له حسن . لكن أحسن من ذلك أن يكون ذِكْر الله عند طروق المعصية على الإنسان ، فيذكر ربه ، فيمتنع عن معصيته . فماذا قال ابن عباس - مع أن هذا القول مخالف لقوله في الآية - ؟ قال : عجيب والله ، فأعجب بقول ابن ربيعة ، وبارك فهمه للآية ، ولم ينكر عليه اجتهاده لأن الإنسانَ طبيعي أن يذكر الله في حال الطاعة ، فهو متهيئ للذكْر ، أما أنْ يذكره حال المعصية فيرتدع عنها ، فهذا أقْوى وأبلغ ، وهذا أكبر كما قال سبحانه { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ . . } [ العنكبوت : 45 ] . لذلك جاء في الحديث الشريف : " سبعة يظلهم الله في ظِلِّه ، يوم لا ظِلَّ إلا ظله - ومنهم : ورجل دَعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله " هذا هو ذِكْر الله الأكبر لأن الدواعي دواعي معصية ، فيحتاج الأمر إلى مجاهدة تُحوِّل المعصية إلى طاعة . أما قول ابن عباس في { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ … } [ العنكبوت : 45 ] أن ذِكْر ربكم لكم بالثواب والرحمة أكبر من ذِكْركم له بالطاعة . وحيثيات هذا القول أن ربك - عز وجل - لم يُكلِّفك إلا بعد سِنِّ البلوغ ، وتركك تربَع في نعمه خمسة عشر عاماً دون أنْ يُكلفك ، ثم يُوالي عليك نِعَمه ، ولا يقطع عنك مدده حتى لو انصرفتَ عن منهجه ، بل حتى لو كفرتَ به لا يقبض عنك يد عطائه ونعمه . إذن : فذِكْر الله لك بالخَلْق من عدم ، والإمداد من عُدم ، وموالاة نِعَمه عليك أكبر من ذِكْرك له بالطاعة ، وقد ذكرك سبحانه قبل أنْ يُكلِّفك أَن تذكره . كما أن ذكركم له سبحانه بالطاعة في الدنيا موقوت ، أما ذِكْره لكم بالثواب والجزاء والرحمة في الآخرة فممتد لا ينقطع أبداً . ثم تختم الآية بقوله سبحانه : { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [ العنكبوت : 45 ] هذه الكلمة نأخذها على أنها بشارة للمؤمن ، ونذارة للكافر ، كما تقول للتلاميذ يوم الامتحان : سينجح المجتهد منكم ، فهي بشارة للمجتهد ، وإنذار للمهمِل ، فالجملة واحدة ، والإنسان هو الذي يضع نفسه في أيهما يشاء . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ … } .