Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 46-46)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا كيف نجادل أهل الكتاب ، وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في القرآن الكريم نقول : ما معنى الجدل ؟ الجدل : مأخوذ من الجَدْل ، وهو فَتْل الشيء ليشتد بعد أنْ كان ليناً كما نفتل حبالنا في الريف ، فالقطن أو الصوف مثلاً يكون منتفشاً يأخذ حيزاً واسعاً ، فإذا أردْنا أن نأخذ منه خيطاً جمعنا بعض الشعيرات ليُقوِّي بعضها بعضاً بلفِّها حول بعضها ، وبجَدْل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى ، وعلى قَدْر الغاية التي يُراد لها الحبل تكون قوته . ومن الجدل أُخِذ الجدال والجدَل والمجادلة ، وفي معناها : الحوار والحجاج والمناظرة ، ومعناه أن يوجد فريقان لكل منهما مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن الآخر أي : ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو . فإذا كان المقصود هو الحق في الجدال أو الحِجَاج أو المناظرة فهذا الاسم يكفي ، لكن إنْ دخل الجدال إلى مِراءٍ أو لجاجة ، فليس القصد هو الحق ، إنما أنْ يتغلَّب أحد الفريقين على الآخر ، والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة ، منها قوله تعالى : { لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ … } [ المؤمنون : 75 ] . لكن إذا فَتَلْنا الشيء المنفوش حتى صار مُضْمراً ، وأخذ من الضمر قوة ، أأنت تجعل في الجدل خَصْمك قوياً ؟ إنك تحاول أنْ تُقوِّي نفسك في مواجهته . قالوا : حين أنهاه عن الباطل وأعطفه ناحية الحق ، فإنه يقوي يقينه في شيء ينفعه ، وكأنه كان منتفشاً آخذاً حيِّزاً أكبر من حجمه بالباطل الذي كان عليه ، فأنا قوّيته بالحق . وفي العامية نقول فلان منفوخ على الفاضي أو نقول فلان نافش ريشه كأنه أخذ حيزاً أكبر من حجمه . لذلك نلحظ أن التغلب في الجدل لا يكون لمجرد الجدل ، إنما تغلُّبك لحق ينفع الغير ويُقويه ويردّه إلى حجمه الطبيعي . أو : أن الجدل مأخوذ من الجدال وهي الأرض ، كأن يطرح القوي الضعيف أرضاً في صراع مثلاً . والجدال يكون بين شخصين ، لكل منهما رأيه الذي يألفه ويحبه ويقتنع به ، فحين تجادله تريد أنْ تُخرِجه عن رأيه الذي يألف إلى رأيك الذي لا يألفه ولم يعتده ، فأنت تجمع عليه أمرين : أنْ تُخرجه عما أَلِف واعتاد إلى ما لم يألف ، فلا يكُنْ ذلك بأسلوب يكرهه حتى لا تجمع عليه شدتين . فعليك إذن باللين والاستمالة برفق لأن النصح ثقيل كما قال شوقي رحمه الله : فلا تجعله جبلاً ، ولا ترسله جَدَلاً ، وعادة ما يُظهِر الناصح أنه أفضل من المنصوح . ويقولون : الحقائق مرة ، فاستعيروا لها خِفَّة البيان لأنك تُخِرج خَصْمك عما أَلِف ، فلا تخرجه عما ألف بما يكره ، بل بما يحب . والإنسان قد يُعبِّر عن الحقيقة الواحدة تعبيراً يُكره ، ويُعبِّر عنها تعبيراً يُحب وترتاح إليه ، كالملك الذي رأى في منامه أن كل أسنانه قد سقطتْ ، فطلب مَنْ يُعبِّر له ما رأى ، فجاءه المعبِّر واستمع منه ، ثم قال : معنى هذه الرؤيا يا مولاي أن أهلك جميعاً سيموتون ، فتشاءم من هذا التعبير ولم يُعجبه ، فأرسلوا إلى آخر فقال : هذا يعني أنك ستكون أطولَ أهل بيتك عُمراً ، فَسُرَّ الملك بقوله . فهنا المعنى واحد ، لكن أسلوب العرض مختلف . ودخل رجل على آخر ، فوجده يبكي فقال : ما يُبكيك ؟ قال : أخذْتُ ظلماً ، فتعجب وقال : فكيف بك إذا أُخِذْتَ عدلاً ؟ أكنت تضحك . والمعنى أن مَنْ أُخذ ظلماً لا ينبغي له أن يحزن لأنه لم يفعل شيئاً يشينه ، والأَوْلَى بالبكاء من أُخذ عدلاً وبحقٍّ . ورجل قُتِل له عزيز فجلس يصرخ ويولول ، فدخل عليه صاحبه مُواسياً فقال له الرجل : إن ابني قُتِل ظلماً ، فقال صاحبه : الحمد لله الذي جعل منك المقتول ، ولم يجعل منك القاتل . إذن : سلامة المنطق وخِفَّة البيان أمر مهم ، وعلى المجادل أن يراعي بيانه ، وأن يتحين الفرصة المناسبة ، فلا تجادل خصمك وهو غضبان منك أو وأنت غضبان منه . قالوا : مَرَّ رجل فوجد صبياً يغرق في البحر ، فلم ينتظر حتى يخلع ثيابه ، وألقى بنفسه وأنقذ الصبي ، ثم أخذ يضربه ويلطمه ، والولد يقول : شكراً لك بارك الله فيك ، لماذا ؟ لأنه قسا عليه بعد أنْ أنقذه ، لكن ما الحال لو وقف على البَرِّ ، وكال له الشتائم وعنَّفه ، لماذا ينزل البحر وهو لا يعرف العوم ؟ لذلك يقول الحكماء : آسِ ثم انصح . لذلك يُعلِّمنا ربنا - عز وجل - أصول الجدل وآدابه لأنه يريد أن يُخرِج بهذا الجدل أناساً من الكفر إلى الإيمان ، ومن الجحود إلى اليقين ، وهذا لا يتأتّى إلا باللطف واللين ، كما قال سبحانه : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ النحل : 125 ] . ويُعلِّمنا سبحانه أن للجدل مراتبَ بحسب حالة الخَصم ، فالذي ينكر وجود الله له جدل مخصوص ، والذي يؤمن بوجود الله ويقول : إن معه شريكاً . له جدل آخر ، ومَنْ يؤمن بالله ويقول سأتبع نبييِّ ولن أتبعك له جدل آخر وبشكل خاص ، والمختلفون معك من أهل مِلَّتك لهم جدل يليق بحالهم . إذن : للجدل مراتب نلحظها في أسلوب القرآن ، فبم جادل الذين لا يؤمنون بوجود إله ؟ قال : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } [ الطور : 35 - 36 ] . فأتى لهم بمسألة الخَلْق الظاهرة التي لم يدَّعها أحد ، ولا يجرؤ أحد على إنكارها ، حتى المشركون والملاحدة لأن أتفه الأشياء في صناعاتهم يعرفون صانعها ، ويُقرُّون له بصنعته ، ولو كانت كوباً من زجاج أو حتى قلم رصاص ، لا بُدَّ أن لكل صنعة صانعاً يناسبها . أليس مَنْ خلق السماوات والأرض والشمس والقمر … إلخ أَوْلَى بأن يعترفوا له سبحانه بالخَلْق ؟ وهم أنفسهم مخلوقون ولم يقولوا إنَّا خلقنا أنفسنا ، ولم يقولوا خلقنا غيرنا ، فمَنْ خلقهم إذن ؟ وقلنا : إن الدَّعْوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُم لها معارض ، والحق - سبحانه وتعالى - قال علانية ، وعلى لسان رسله ، وفي قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة ، وأسمع الجميع : أنا خالق هذا الكون . فإنْ قال معاند : فَمَنْ خلق الله ؟ نقول : الذي خلقه عليه أن يعلن عن نفسه . والحق سبحانه شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] ولم يقُلْ أحد أنا الإله . إذن : الذين ينكرون الخالق لا حَقَّ لهم . هذا في جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الله . أما الذين يؤمنون بوجود الله ، لكن يتخذون معه سبحانه شركاء ، فنجادلهم على النحو التالي : شركاؤكم مع الله غَيْب أم شهادة ؟ إنْ قالوا : غَيْب فإن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية . وقال : أنا واحد لا شريك لي ، فأين كان شركاؤكم ؟ لماذا لم يدافعوا عن ألوهيتهم مع الله ؟ إما لأنهم ما دروا بهذا الإعلان ، وإما أنهم دَرَوا وعجزوا عن المواجهة ، وفي كلتا الحالتين تنتفي عنهم صفة الألوهية ، فأيُّ إله هذا الذي لا يدري بما يدور حوله ، أو يجبن عن مواجهة خَصْمه ؟ فإنْ قالوا : شركاؤنا الأصنام والأشجار والكواكب وغيرها ، فهذه من صُنْع أيديهم ، فكيف يعبدونها ، ثم هي آلهة لا منهجَ لها ولا تكاليفَ ، وإلا فبماذا أمرتهم وعَمَّ نهتْهم ؟ إذن : عبادتهم لها باطلة . ثم نسأل الذين يتخذون مع الله شركاء : أهؤلاء الذين تشركونهم مع الله يتواردون على الأشياء بقدرة واحدة ، أم يتناوبون عليها ، كل منهم بقدر على شيء معين ؟ إنْ كانوا يزاولون الأشياء بقدرة واحدة ، فواحد منهم يكفي والباقون لا فائدة منهم ، وإنْ كانوا يتناوبون على الأشياء ، فكلٌّ منهم قادر على شيء عاجز عن الشيء الآخر ، والإله لا يكون عاجزاً . وقد رَدَّ الحق سبحانه على هؤلاء بقوله تعالى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] أي : لَذهبوا إليه إما ليُعنِّفوه ويُصَفّوا حساباتهم معه ، وكيف أخذ الأمر لنفسه ، وإما ليتوددوا إليه ويعاونوه . وفي موضع آخر : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ … } [ المؤمنون : 91 ] . وبعد أنْ بينَّا جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الإله وجدال أهل الشرك نجادل أهل الكتاب ، وهم ألطفُ من سابقيهم لأنهم مؤمنون بإله وأنه الخالق ، ومؤمنون بالبلاغ عن الله ، ومؤمنون بالكتب التي نزلت ، والخلاف بيننا وبينهم أنهم لا يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في حين نؤمن نحن برسلهم وكتبهم ، وهذه أول مَيزة تميَّز بها الإسلام على الأديان الأخرى . ونقول لهؤلاء : لقد آمنت برسولك ، وقد سبقه رسل ، فلماذا تنكر أن يأتي رسول بعده ؟ ثم هل جاء الرسول بعد رسولك ليناقضه في أصول الأشياء ؟ إنهم جميعاً متفقون على أصول العقيدة والأخلاق ، متفقون على أنهم عباد لله متحابون ، فلماذا تختلفون أنتم ؟ فربنا - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . . } [ العنكبوت : 46 ] لأنهم ليسوا ملاحدة ولا مشركين ، فهُمْ مؤمنون بإلهكم وبالرسل وبالكتب ، غاية ما هنالك أنهم لا يؤمنون برسولكم . لذلك يعترض بعض الناس : كيف يبيح الإسلام أنْ يتزوج المسلم من كتابية ، ولا يبيح للمسلمة أن تتزوج كتابياً ؟ نقول : لأن أصل القِوَامة في الزواج للرجل ، والزوج المؤمن حين يتزوج كتابية مؤمن برسولها ، أما الزوج الكتابي فغير مؤمن برسول المؤمنة ، فالفَرْق بينهما كبير . ومعنى : { إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ العنكبوت : 46 ] أن في الجدال حسناً وأحسن ، وقد سبق الجدال الحسن في قوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] ونوح عليه السلام يتلطف في جدال قومه ، فيقول : { قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [ هود : 35 ] . فينسب الافتراء إلى نفسه ، ويتهم نفسه بالإجرام إنِ افترى ، فإنْ لم يكُنْ هو المفتر ، وهو المجرم فَهُمْ . ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في جدال قومه : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ سبأ : 25 ] فيذكر صلى الله عليه وسلم الجريمة في حقه هو ولا يذكرها في حَقِّ المعاندين المكذِّبين ، فأيُّ أدب في الدعوة أرفع من هذا الأدب ؟ إذن : جادل غير المؤمنين بالحسن ، وجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، لما يمتازون به عن غيرهم من ميزة الإيمان بالله . فإنْ تعدَّوْا وظلموا أنفسهم في مسألة القمة الإيمانية ، فادعوا أن لله ولداً أو غيره ، فإِنهم بذلك يدخلون في صفوف سابقيهم من المشركين ، فإنْ كنا مأمورين بأن نجادلهم بالتي هي أحسن وقالوا بهذا القول ، فعلينا أن نجادلهم بما يقابل الأحسن ، نجادلهم إما بالحسن ، وإما بغير الحسن أي : بالسيف . لكن ، هل يفرض السيف عقائد ؟ السيف لا يأخذ من الناس إلا قوالبهم . أمّا القلوب فلا يخضعها إلا الإيمان ، والله تعالى لا يريد قوالب ، إنما يريد قلوباً . واقرأ قوله تعالى في سورة الشعراء : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3 - 4 ] فإنِ أراد سبحانه قَهْر القوالب والقلوب على الخضوع ، بحيث لا يستطيع أحد أنْ يتأبَّى على الإيمان ما وُجد كافر ، وما كفر الكافر إلا لما أعطاه الله من منطقة الاختيار فالحق سبحانه يريد منّا قلوباً تحبه سبحانه وتعبده لأنه سبحانه يستحق أنْ يُعبد . إذن : الذين يخرجون عن نطاق الكتابية بتجاوزهم الحدَّ ، وقولهم أن عيسى ابن الله ، أو أن الله ثالث ثلاثة ، إنما يدخلون في نطاق الشرك والكفر ، ولن نقول لهؤلاء : اتبعوا رسولنا ، وإنما اتبعوا رسولكم ، والكتاب الذي جاءكم به من عند الله ، وسوف تجدون فيه البشارة بمحمد { ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ … } [ الأعراف : 157 ] . إذن : فحين تكفر فأنت لا تكفر بمحمد ولا بالقرآن ، إنما تكفر أولاً بكتابك أنت لذلك يعلمنا الحق سبحانه : { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ … } [ المائدة : 17 ] وقال أيضاً : { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ … } [ المائدة : 73 ] . أي : لا تعاملوهم على أنهم كتابيون ، ولما سُئلْنا في الخارج من أبنائنا الذين يرغبون في الزواج من أجنبيات ، فكنت أقول للواحد منهم : سَلْها أولاً : ماذا تقول في عيسى ، فإنْ قالت هو رسول الله فتزوجها وأنت مطمئن لأنها كتابية ، وإن قالت : ابْن الله ، فعاملها على أنها كافرة ومشركة . هذا في معنى قوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ … } [ العنكبوت : 46 ] ونحن لا نحمل السيف في وجه هؤلاء لأن السيف ما جاء إلا ليحمي اختيار المختار ، فلي أنْ أعرض ديني ، وأنْ أُعلنه وأشرحه ، فإنْ منعوني من هذه فلهم السيف ، وإنْ تركوني أعلن عن ديني فهم أحرار ، يؤمنون أو لا يؤمنون . إنْ آمنوا فأهلاً وسهلاً ، وإنْ لم يؤمنوا فهم أهل ذمة ، لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، ويدفعون الجزية نظير ما يتمتعون به في بلادنا ، ونظير حمايتنا لهم ، وما نُقدِّمه لهم من خدمات ، وإلا فكيف نفرض على المؤمنين الزكاة ونترك هؤلاء لا يقدمون شيئاً ؟ لذلك نرى الكثيرين من أعداء الإسلام يعترضون على مسألة دَفْع الجزية ، ويروْنَ أن الإسلام فُرِض بقوة السيف ، وهذا قول يناقض بعضه بعضاً ، فما فرضنا عليكم الجزية إلا لأننا تركناكم تعيشون معنا على دينكم ، ولو أرغمناكم على الإسلام ما كان عليكم جزية . والحق - تبارك وتعالى - يقول : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ … } [ البقرة : 256 ] لأنني لا أُكرهك على شيء إلا إذا كنتَ ضعيف الحجة ، وما دام أن الرشدْ بيِّن والغيّ بيِّن ، فلا داعي للإكراه إذن . لكن البعض يفهم هذه الآية فهماً خاطئاً فحين تقول له : صَلِّ يقول لك { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ … } [ البقرة : 256 ] ونقول له : لم تفهم المراد ، فلا إكراه في أصل الدين في أنْ تؤمن أو لا تؤمن ، فأنت في هذه حُرٌّ ، أما إذا آمنتَ وأعلنتَ أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فليس لك أن تكسر حَدّاً من حدود الإسلام ، وفَرْق بين " لا إكراه في الدين " و " لا إكراه في التدين " . ومن حكمة الإسلام أن يعلن حكم الردة لمن أراد أنْ يؤمن ، نقول له قف قبل أن تدخل الإسلام ، اعلم أنك إنْ تراجعت عنه وارتددتَ قتلناك ، وهذا الحكْم يضع العقبة أمام الراغب في الإسلام حتى يفكر أولاً ، ولا يقدم عليه إلا على بصيرة وبينة . وإذا قيل { أَهْلَ ٱلْكِتَابِ … } [ العنكبوت : 46 ] أي : الكتاب المنزَّل من الله ، وقد علَّم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل المشركين بقوله : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] فعلم الرسول أن يرجع إلى أهل الكتاب ، وأنْ يأخذ بشهادتهم ، وفي موضع آخر علَّمه أن يقول لمن امتنع عن الإيمان : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } [ الرعد : 43 ] . إذن : فرسولنا يستشهد بكم ، لما عندكم من البينات الواضحة والدلائل على صدقه . حتى قال عبد الله بن سلام : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ، ومعرفتي لمحمد أشد ، ولم لا يعرفونه وقد ذُكر في كتبهم باسمه ووصفه : { ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ … } [ الأعراف : 157 ] . ثم ألم يحدث منكم أنكم كنتم تستفتحون به على المشركين في المدينة ، وتقولون : لقد أطلَّ زمان نبي يُبعث في مكة ، فنتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم ؟ فلما جاءكم النبي الذي تعرفون أنكرتموه وكفرتم به : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ … } [ البقرة : 89 ] . كيف يستشهد الله على صدق رسوله بكم وبكتبكم ثم تكذبون ؟ قالوا : كذَّبوا لما لهم من سلطة زمنية يخافون عليها ، ورأوا أن الإسلام سيسلبهم إياها . وكلمة { بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ العنكبوت : 46 ] وردت في القرآن ، لكن في غير الجدل في الدين ، وردت في كل شيء يُوجب جدلاً بين أُناس وذلك في قوله سبحانه : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] . وقد جاءني رجل يذكر هذه الآية ، وما يترتب على الإحسان ، يقول : عملتُ بالآية فلم أجد الولي الحميم ؟ قلت له : كوْنك تحمل هذا الأمر في رٍأسك دليل على أنك لم تدفع بالتي هي أحسن لأن الله تعالى لا يقرر قضية قرآنية ، ويُكذِّبها واقع الحياة ، فإنْ دفعتَ بالتي هي أحسن بحقٍّ لا بُدَّ وأنْ تجد خَصْمك كأنه وليٌّ حميم . لذلك يقول أحد العارفين : @ يَا مَنْ تُضَايِقه الفِعَالُ مِنَ التِي وَمِنَ الذِي ادْفَعْ فديْتُكَ بالتي حتَّى تَرى فإذَا الذي @@ والمعنى : من التي تسيء إليك ، أو الذي يسيء إليك { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ فصلت : 34 ] حتى ترى { فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] . وأذكر أنه جاءني شاب يقول : إن عمي مُوسِر ، وأنا فقير ، وهو يتركني ويتمتع بماله غيري ، فقلت له : بالله أتحب النعمة عند عمك ؟ فسكت ، قلت له : إذن أنت لا تحبها عنده ، لكن اعلم أن النعمة تحب صاحبها أكثر من حُبِّ صاحبها لها لذلك لا تذهب إلى كارهها عند صاحبها . فما عليك إلا أنْ تثوب إلى الحق ، وأنْ تتخلص مما تجد في قلبك لعمك ، وثِقْ بأن الله هو الرزاق ، وإنْ أردتَ نعمة رأيتها عند أحد فأحببها عنده ، وسوف تأتيك إلى بابك ، لأنك حين تكره النعمة عند غيرك تعترض على قدر الله . بعد هذا الحوار مع الرجل - والله يشهد - دَقَّ جرس الباب ، فإذا به يقول لي : أما دريتَ بما حدث ؟ قلت : ماذا ؟ قال : جاءني عمي قبل الفجر بساعة ، فلما أنْ فتحت له الباب انهال عليَّ ضَرْباً وشَتْماً يقول : لماذا تتركني للأجانب يأكلون مالي وأنت موجود ؟ ثم أعطاني المفاتيح وقال : من الصباح تباشر عملي بنفسك . فقلت له : لقد أحببتها عند عمك ، فجاءت تطرق بابك . وقوله سبحانه { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ … } [ العنكبوت : 46 ] أي : ظلموا أنفسهم بالشرك لأن الله تعالى قال : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] تظلم نفسك لا تظلم الله لأن الظالم يكون أقوى من المظلوم . وجعل الشرك ظلماً عظيماً لأنه ذنبٌ لا يغفر : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ … } [ النساء : 116 ] . فالشرك ظلم عظيم عليك نفسك ، أما الذنوب دون الشرك فلها مخرج ، وقد تنفكّ عنها إما بالتوبة وإما برحمة الله ومغفرته . ثم يُعلِّمنا الحق - تبارك وتعالى - التي هي أحسن في الردِّ على الذين ظلموا منهم : { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ العنكبوت : 46 ] . يعني : فعلامَ الاختلاف ، ما دام أن الإله واحد ، وما دام أن كتابكم يذكر الرسول الذي يأتي بعد رسولكم ، وقد سبق رسولكم رسل ، فكان يجب عليكم أن تؤمنوا به ، وأنْ تُصدِّقوه . جاءت امرأة تشتكي أن زوجها لم يُوف بما وعدها به ، وقد اشترطتْ عليه قبل الزواج ألاَّ يذهب إلى زوجته الأولى ، فقُلْت لها : يعني أنت الثانية وقد رضيت به وهو متزوج ؟ قالت : نعم ، قلت : فلماذا رضيتِ به ؟ قالت : أعجبني وأعجبته ، قلت : فلا مانع إذن أنْ تعجبه أخرى فيتزوجها ، وتقول له : إياك أنْ تذهب إلى الثانية ، فهل هذا يعجبك ؟ إذن : فاحترمي حقَّ الأولى فيه ، لتحترم الثالثة حقك فيه ، فقامت وانصرفت . وقال : { وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ … } [ العنكبوت : 46 ] لأن الكلام هنا للذين ظلموا وقالوا بالتعدد . وهنا قال تعالى { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ العنكبوت : 46 ] ولم يقل مثلاً : ونحن به مؤمنون ، ولماذا ؟ لأن الإيمان عقيدة قلبية أنْ تؤمن بإله ، أمّا الإيمان فليس كلاماً ، الإيمان أن تثق به ، وأنْ تأمنه على أنْ يُشرِّع لك ، وأنْ تُسلم له الأمر " افعل كذا " " ولا تفعل كذا " ، وهناك أناس ليسوا بمؤمنين بقلوبهم ، ومع ذلك يعملون عمل المسلمين ، إنهم المنافقون . لذلك يقول تعالى : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ … } [ الحجرات : 14 ] . إذن : فَرْق بين إيمان وإسلام ، فقد يتوفر أحدهما دون الآخر لذلك قال سبحانه { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ العصر : 1 - 3 ] فقال هنا : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ العنكبوت : 46 ] يعني : مُنفِّذين لتعاليم ديننا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ … } .