Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 51-51)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والاستفهام هنا للتعجُّب وللإنكار ، يعني : كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات ، وقد أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته ، وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب ؟ إذن : هم يريدون أنْ يتمحّكوا ، وألا يؤمنوا ، وإلا لو أنهم طلاب حَقٍّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به . وقوله تعالى : { يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ … } [ العنكبوت : 51 ] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات ، وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلاثة أرباع ، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه ، يتلوه كما أُنزِل عليه ، فيكتبه الكتبة ، ويحفظه مَنْ يحفظه منهم ، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ . ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات ، يُعيدها كما أملاها ، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] . وإلا ، فَلَك أن تتحدى أكثر الناس حِفْظاً أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلاً ، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ … } [ العنكبوت : 51 ] لكن لمن { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 51 ] لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يُحسِن استقباله ويؤمن به ، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وَقْر وهو عليهم عمى ، لا يفقهونه ولا يتدبرونه لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس ، وإنما ببُغْض وكراهية استقبال ، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته . لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلام الله : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ … } [ فصلت : 44 ] . أما الذين يجحدونه ولا يُحسنون استقباله ، فيقول عنهم : { وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى … } [ فصلت : 44 ] . وسبق أنْ قلنا : إن الفعل واحد ، لكن المستقبل مختلف ، ومثَّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في البرد ، ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده ، وأنت أيضاً تنفخ في الشمعة لتطفئها ، وتنفخ في النار لتشعلها . وفي موضع آخر يقول تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ … } [ الإسراء : 82 ] ، ففرْق بين الشفاء والرحمة ، الشفاء يعني : أنه كانت هناك علة ، فبرأت ، لكن الرحمة ألاَّ تعاودك العلة ، ولا يأتيك الداء مرة أخرى ، فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية ، يعالجها بالقراءة ويُحصِّنك ضدها فلا تصيبك ، وإنْ وقعتَ في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن فإنها تبرأ بإذن الله ، إذن : الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس . ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة ، فالإنسان بدن وقيم ومعان وأخلاق ، هذه المعاني في الإنسان يسمونها النفسيات ، فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس لذلك نجد بين تخصصات الطب الطب النفسي ، وكل مريض لا يجدون لمرضه سبباً عضوياً يُشخِّصونه على أنه مرض نفسي ، وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهدىء المريض أو تهده فينام حتى لا يفكر في شيء ، وهل هذا هو العلاج ؟ ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلاجيْن : العضوي والنفسي ، فسلامة الجسم في أن الله تعالى أحلّ لك أشياء ، وحرَّم عليك أشياء ، وما عليك إلا أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات الجسد ، فإنْ كنت من هؤلاء الذين يحبون الأكل من الحلال لكنهم يبالغون فيه إلى حَدِّ التًّخمة ، فاقرأ في القرآن : { يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } [ الأعراف : 31 ] . ثم تجد في السنة النبوية مُذكِّرة تفسيرية لهذه الآية : " بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمْنَ صُلْبه " ، فإنْ كان ولا بُدَّ : " فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنَفسِه " . فالأصل أن يأكل الإنسان ليعيش ، لا أن يعيش ليأكل . وبعض السطحيين يقولون : ما معنى " ثلث لنفَسه " ، وهل النفَس في المعدة ؟ والآن ، ومع تطور العلوم عرفنا أن تُخمة البطن تضغط على الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في التنفس . أما الناحية النفسية ، فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها ، أو انبساطها عن طبيعة تكوينها ، كالبيضة مثلاً لها حجم معين فإنْ ضيَّقْتَ هذا الحجم أو بسطته تنكسر . وهذا أيضاً أساس الداء في النفس البشرية لأن ملكات النفس ينبغي أنْ تظل في حالة توازن واستواء ، وتجد هذا التوازن في منهج ربك - عز وجل - حيث يقول سبحانه : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ … } [ الحديد : 23 ] . فمعنى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ … } [ الحديد : 23 ] الانقباض { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ … } [ الحديد : 23 ] الانبساط . وكلاهما مذموم منهيٌّ عنه ، لكن مَن ذا الذي لا يأسى على ما فات ، ولا يفرح بما هو آتٍ ؟ لذلك نجد البُلَداء الذين لا تَهزهم الأحداث بصحة قوية لأنهم لا يهتمون للخطوب ، حتى أن الشعراء لم يَفُتْهم هذا المعنى ، حيث يقول أحدهم : @ وَفِي البَلادةِ مَا فِي العَزْمِ منْ جَلَدٍ إنَّ البليد قويُّ النفْسِ عَاتيها فَاسْأل أُوِلي العَزْم إنْ خارتْ عزائمهمْ عَنِ البَلادةِ هَلْ مَادتْ رَوَاسِيهَا ؟ @@ فالذي تظنه بلادة هو عزم قويٌّ في استقبال الأحداث والصمود لها . إذن : الرحمة في منهج الله إنِ التزمنا به نأمن من الأدواء ، ماديةَ كانت أم معنوية .