Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 52-52)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قُلْ أي : للمنكرين لك { كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً … } [ العنكبوت : 52 ] أي : حسبي أن يشهد الله لي بأنِّي بلّغْتُ ، فشهادتكم عندي لا تنفع ، كما أنه لا ينفعني إيمانكم ، ولا يضرني كفركم ، فأجري آخذه من ربي على مجرد البلاغ وقد بلَّغْتُ ، وشهد الله لي بذلك . وفي موضع آخر يقول سبحانه : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ … } [ الرعد : 43 ] أي : أنكم لم تكتفوا بالآيات ، ولم تؤمنوا بها ، لكني أكتفي برب هذه الآيات شهيداً بيني وبينكم ، إذن : هناك خصومة في البلاغ بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يُكذِّبونه في البلاغ عن ربه . فلا بُدَّ إذن من فَصْل في هذه الخصومة ، وإذا ما نظرنا إلى قضايا الخَلْق في الخصومات وجدنا إمَّا أنْ يُقر المتهم ، وإما أن يشهد شاهد حَقٍّ لا شاهد زور ، ثم يعرض الأمر على القاضي ليحكم بالشهادة أو البينة . ولا بُدَّ في القاضي ألاّ يكون صاحب هوى ، ثم يأتي دور تنفيذ الحكم ، وهي السلطة التنفيذية ، وهذه أيضاً ينبغي ألاَّ يكون لها هوى ، فتنفذ الحكم على حقيقته ، فكأن الخصومات عند البشر تمرُّ بمراحل متعددة ، وقد تتميع الحقائق إذا لم تتوفر الشروط اللازمة لهذه الأطراف ، فلو شهد الشاهد زوراً أو مال القاضي أو المنفِّذ للحكم ودلَّس في التنفيذ لانقلبت المسائل . أما في حكومة الحق - سبحانه وتعالى - في الخصومة بين محمد وقومه ، فكفى به سبحانه حاكماً وقاضياً ومُنفِّذاً ، لماذا ؟ لأنه سبحانه : { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ العنكبوت : 52 ] . فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، يعلم السر وأَخْفى ، فأيُّ شهادة إذن أعدل من شهادته ؟ وهو سبحانه قاضٍ عادل يحكم بالحق لأنه ليس له سبحانه هوىً يميل به إلى الباطل ، وهو سبحانه لا يُبدل في تنفيذ الأحكام لأنه يُنفّذ حكمه هو سبحانه . إذن : مَنِ الفائز في حكومة قاضيها الحق - تبارك وتعالى - وأطراف الخصومة فيها محمد وقومه ؟ فاز رسول الله في أن يكون الله هو الشهيد ، وخسر الكافرون حين كفروا به ، ولم تكْفِهم البينة التي جاءتهم في القرآن الكريم . وعِلْم الله للغيب ليس علاجاً ومذاكرة ليعلم ، إنما تأتي الأمور بتوقيت منه قديم أزلاً ، والعالم يظهر على وَفْق ما يراه أزلاً لذلك يقول سبحانه : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . أي : يقول للشيء ، فكأنه موجود فعلاً ينتظر الأمر من الله بالظهور للناس ، فقوله كُنْ للظهور فقط ، أما مسألة الخَلْق فمنتهية أزلاً ، والماكيت موجود ، فالحق سبحانه يعلم غَيْب السماوات والأرض ، أما نحن فلا نعلم حتى غَيْب أنفسنا . ويقول سبحانه : { يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] فهل هناك أخفى من السر ؟ قالوا : السر ما تُسِرُّه في نفسك ، والأخفى منه أنْ يعلمه سبحانه قبل أن يكون في نفسك . وقد وقف البعض عند قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [ النور : 29 ] وقوله سبحانه : { يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] . يقولون : ما وجه امتنان الله بعلم الجهر من القول ، وبعِلْم ما نُبدي ، فهذا شيء غير مستور يعرفه الجميع ؟ ونقول : افهم عن الله مراده ، فالمعنى لم يقُلْ سبحانه : أعلم ما تبدي أنت ، ولا ما تجهر به أنت ، إنما ما تبدون كلكم ، وما تجهرون به كلكم ، ولتوضيح هذه المسألة تصوَّر مظاهرة من عدة مئات أو عدة آلاف تختلط بينهم الهتافات والأصوات وتتداخل الكلمات ، بحيث لا تستطيع أن تميز صوت هذا من صوت ذاك . لكن الحق سبحانه يستطيع تمييز هذه الأصوات ، وإعادة كل منها إلى صاحبه لذلك نرى في المظاهرات أن كل إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء ، ويهتف بما لا يجرؤ أن يهتف به منفرداً لأن صوته سيختلط مع الأصوات ، ويستتر فيها فلا يعرف مصدره ، وهكذا يكون علم الجَهْر أقوى من علم الغَيْب . فإنْ قلت : إن بعض العلماء باكتشافاتهم وبحوثهم توصلوا إلى معرفة أسرار كانت مستترة في الكون ، كالكهرباء والذرة وغيرها ، فهُمْ بذلك يعلمون الغيب . نقول : نعم ، علموا شيئاً كان مستوراً في الكون ، لكن علموه بمقدمات خلقها الله ويسَّرها لهم ، فأخذوا هذه المقدمات وتوصَّلوا بها إلى اكتشافاتهم ، كما يحلّ ولدك مثلاً تمرين الهندسة ، فيستعين بالمعطيات . إذن فهو في حقيقة الأمر ليس غيباً ، بل هو شيء موجود ، لكن له ميلاد ووقت يظهر فيه ، فإنْ جاء وقته يسَّر الله لخَلْقه الوصول إليه ، إما بالبحث واستخدام المقدمات ، فإذا صادف ميلاد السر بحث الخلق يُقال : إنهم أحاطوا عِلْماً ببعض غيب الله . ويقول تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ … } [ البقرة : 255 ] أي : شاء أنْ يُولد ، فإنْ جاء ميلاد السر ، ولم يتوصَّلوا إليه ببحوثهم ، ولم يقفوا على مقدماته كشفه الله لهم ولو مصادفة ، وقد اكتشفوا كثيراً من أسرار الكون مصادفة . فالغيب الحقيقي : هو الذي ليس له مقدمات تُوصِّل إليه ، ولا يعلمه أحد إلا الله ، والذي قال الله عنه : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } [ الجن : 26 - 27 ] فالرسول - إذن - لا يعلم الغيب ، إنما عُلِّم الغيب . ثم يقول تعالى : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ … } [ العنكبوت : 52 ] أي : بعبادة ما دون الله من الأصنام والأوثان { وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ … } [ العنكبوت : 52 ] الخالق واجب الوجود { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [ العنكبوت : 52 ] لأن كفر الخَلْق بالخالق لا يؤثر في ذاته سبحانه ، ولا في صفات الكمال فيه ، لأنه سبحانه بصفات الكمال خلقهم ، فله سبحانه صفات الكمال ، آمنوا أم كفروا . لكن فَرْق بين مَنْ يؤمن ومَنْ يكفر ، فالإنسان بطبعه حريص على الحياة متمسك بها ، حتى إنه إنْ أصابه مرض طلب العلاج ليصون حياته وهو يخاف الموت ، ويرى مصارع الناس من حوله ، وكيف سبقه أجداده ولم يخلد منهم أحد ، ويرى أن الموت يأتي بلا أسباب حتى قيل : والموت من غير سبب هو السبب . إذن : فالموت حقيقة واقعة ، لكن يشكُّ الناس فيها ولا يتصورونها لأنفسهم لأنهم يكرهونها لذلك يقال في الأثر : ما رأيتُ يقيناً أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت . وليقين الإنسان في الموت نراه يحب البقاء في ولده ، وفي ولد ولده ليبقى ذِكْره أطول فترة ممكنة ، وما دام الأمر كذلك ، فلماذا لا تؤمن بالله فيورثك الإيمانُ حياةً خالدة باقية لا نهايةَ لها ، لا تفارقها ولا تفارقك ، وهي حياة الآخرة . إذن : فمَنِ الخاسرون ؟ الخاسرون هم الكافرون الذي قصروا حياتهم على عمرهم في الدنيا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ … } .