Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 56-56)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أنْ تحدَّث الحق سبحانه عن الكفار والمكذَّبين أراد أنْ يُحدِث توازناً في السياق ، فحدَّثنا هنا عن المؤمنين ليكون أنكَى للكافرين ، حين تردف الحديث عنهم ، وعما يقع لهم من العذاب بما سينال المؤمنين من النعيم ، فتكون لهم حسرة شديدة ، فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكانَ الأمر أهونَ عليهم . وقوله تعالى : { يٰعِبَادِيَ … } [ العنكبوت : 56 ] سبق أن قُلْنا : إن الخَلْق جميعاً عبيد لله ، وعبيد الله قسمان : مؤمن وكافر ، وكل منهما جعله الله مختاراً : المؤمن تنازل عن اختياره لاختيار ربه ، وفضَّل مراده سبحانه على مراد نفسه ، فصار عبداً في كل شيء حتى في الاختيار ، فلما فعلوا ذلك استحقوا أن يكونوا عبيداً وعباداً لله . أما الكافر فتأبَّى على مراد ربه ، واختار الكفر على الإيمان ، والمعصية على الطاعة ، ونسي أنه عبد لله مقهور في أشياء لا يستطيع أن يختار فيها ، وكأن الله يقول له : أنت أيها الكافر تمردْتَ على ربك ، وتأبَّيْتَ على منهجه في افعل و لا تفعل ، واعتدْتَ التمرد على الله . فلماذا لا تتمرد عليه فيما يُجريه عليك من أقدار ، لماذا لا تتأبَّى على المرض أو على الموت ؟ إذن : فأنت في قبضة ربك لا تستطيع الانفلات منها . وعليه ، فالمؤمن والكافر سواء في العبودية لله ، لكن الفرْق في العبادية حيث جاء المؤمن مختاراً راضياً بمراد الله ، وفَرْق بين عبد يُطيعك وأنت تجرُّه في سلسلة ، وعبد يخدمك وهو طليق حُرٌّ . وهكذا المؤمن جاء إلى الإيمان بالله مختاراً مع إمكانية أنْ يكفر ، وهذه هي العبودية والعبادية معاً . ومعنى { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ … } [ العنكبوت : 56 ] يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الأرض وفي سعتها ، ليلفت أنظارهم إلى أنهم سيُضطهدون ويُعذَّبون ، وسيقع عليهم إيذاء وإيلام ، فيقول لهم : إياكم أن تَصِرْفكم هذه القسوة ، إياكم أنْ تتراجعوا عن دعوتكم ، فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا إلى مكان آخر فأرضي واسعة فلا تُضيِّقوها على أنفسكم . لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرض لله ، والعباد كلهم لله ، فإنْ أبصرتَ خيراً فاقِمْ حيث يكون " . فالذي نعاني منه الآن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض الله ، فضيَّقنا على أنفسنا ما وسَّعه الله لنا ، فأرْضُ الله الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ولا جوازات سفر ولا بلاك لست . لذلك قلنا مرة في الأمم المتحدة : إنكم إنْ سعيتُم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر في الأرض ، ألا وهو قوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] . والمعنى : الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام ، فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر ، وإلا فالذي يُتعِب الناس الآن أن توجد أرض بلا رجال ، أو رجال بلا أرض ، وها هي السودان مثلاً بجوارنا ، فيها أجود الأراضي لا تجد مَنْ يزرعها ، لماذا ؟ للقيود التي وضعناها وضيَّقنا بها على أنفسنا . وصدق الشاعر حين قال : @ لَعْمرُكَ مَا ضَاقَتْ بِلادٌ بأهِلْها ولكنَّ أخْلاق الرجَالِ تَضِيقُ @@ ثم يقول سبحانه { فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ } [ العنكبوت : 56 ] فإنْ أخذنا بمبدأ الهجرة فلا بُدَّ أن نعلم أن للهجرة شروطاً أولها : أنْ تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ولا ينقصه ، وانظر قبل أنْ تخرج من بلدك هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها الله عليك ؟ فإنْ كان ذلك فلا مانع ، وإلا فلا هجرةَ لمكان يُخرِجني من دائرة الإيمان ، أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني . وهل يُرضيك أنْ تعيش لتجمع الأموال في بلاد الكفر ، وأنْ تدخل عليك ابنتك مثلاً وفي يدها شاب لا تعرف عنه شيئاً قد فُرِض عليك فَرْضاً ، فقد عرفته على طريقة القوم ، ساعتها لن ينفعك كل ما جمعت ، ولن يصلح ما جُرِح من كرامتك . وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد تكون إلى دار أَمْن فقط ، حيث تأمن فيها على دينك ، وتأمن ألاَّ يفتنك عنه أحد ، ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول الله إلى الحبشة ، وهي ليست أرْضَ إيمان ، بل أرض أَمْن . وقد عَّلل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله : " إن فيها مَلِكاً لا يُظْلَم عنده أحد " وقد تبيَّن بعد الهجرة إليها صِدْق رسول الله ، وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال أهلها . لذلك لم يأمرهم مثلاً بالهجرة إلى أطراف الجزيرة العربية لأنها كانت خاضعة لقريش بما لها من سيادة على الكعبة ، فلا يستطيع أحد أنْ يحمي مَنْ تطلبه قريش ، حتى الذين هاجروا بدينهم إلى الحبشة لم يَسْلَموا من قريش ، فقد أرسلتْ إلى النجاشي مَنْ يكلمه في شأنهم ، وحملوا إليه الهدايا المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد ، لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي راود الإيمانُ قلبه ، فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال : إنه آمن بعد ذلك ، ولما مات صلَّى عليه رسول الله . أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار أَمْن وإيمان معاً ، حيث تأمن فيها على دينك ، وتتمكّن فيها من نشره والدعوة إليه ، وتجد بها إخواناً مؤمنين يُواسُونك بأموالهم ، وبكل ما يملكون ، وقد ضرب الأنصار في مدينة رسول الله أروع مثل في التاريخ في المواساة ، فالأنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة ، وله إرْبة وحاجة للنساء ، فيُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها ، فانظر ماذا فعل الإيمان بالأنصار . وفي قوله سبحانه { فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ } [ العنكبوت : 56 ] أسلوب يُسمُّونه أسلوب قَصْر ، مثل قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . وفَرْق بين أنْ نقول : نعبدك . وإياك نعبد : نعبدك لا تمنع أنْ نعبد غيرك ، أمّا إيَّاك نَعْبد فتقصر العبادة على الله - عز وجل - ، ولا تتجاوزه إلى غيره . فالمعنى - إذن : إنْ كنت ستهاجر فلتكُن هجرتك لله ، وقد فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف : " فَمْن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . ثم يقول الحق سبحانه : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ … } .