Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 134-134)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه بعض من صفات المتقين { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } [ آل عمران : 134 ] لأن المعركة - معركة أُحد - ستعطينا هذه الصورة أيضاً . فحمزة وهو سيد الشهداء وعم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقتل . وليته يُقتل فقط ولكنه مُثِّل به ، وأُخِذ بضع منه وهو كبد فلاكته " هند " ، وهذا أمر أكثر من القتل . وهذه معناها وأُخِذَ دنيء . وحينما جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مقتل حمزة وقالوا له : إن " هنداً " أخذت كبده ومضغتها ثم لفظتها ، إذْ جعلها الله عَصِيَّة عليها ، قال : " ما كان الله ليعذب بعضاً من حمزة في النار " كأنها ستذهب إلى النار ، ولو أكلتها لتمثلت في جسمها خلايا ، وعندما تدخل النار فكأن بعضاً من حمزة دخل النار ، فلا بد أن ربها يجعل نفسها تجيش وتتهيأ للقيء وتلفظ تلك البضعة التي لاكتها من كبد سيد الشهداء . وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحادثة بأنها أفظع ما لقي . إنها مقتل حمزة فقال : " لئن أظفرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم " . وهنا جاء كظم الغيظ ليأخذ ذروة الحدث وقمته عند رسول الله في واحد من أحب البشر إليه وفي أكبر حادث أغضبه ، وينزل قول الحق : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] . كي نعرف أن ربنا - جل جلاله - لا ينفعل لأحد لأن الانفعال من الأغيار ، وهذا رسوله فأنزل - سبحانه - عليه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] ويأتي هنا الأمر بكظم الغيظ ، وهو سبحانه يأتي بهذا الأمر في مسألة تخص الرسول وفي حدث " أٌحد " . وبعد ذلك يُشيعها قضية عامة لتكون في السلم كما كانت في الحرب . وتكون مع الناس دون رسول الله لأنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ } [ آل عمران : 134 ] ونعرف أن كل الأمور المعنوية مأخوذة من الحسّيات . وأصل الكظم أن تملأ القِرْبة ، والقِرَب - كما نعرف - كان يحملها " السقا " في الماضي ، وكانت وعاء نقل الماء عند العرب ، وهي من جلد مدبوغ ، فإذا مُلئت القربة بالماء شُدّ على رأسها أي رُبط رأسها ربطاً محكماً بحيث لا يخرج شيء مَمّا فيها ، ويقال عن هذا الفعل : " كظم القربة " أي ملأها وربطها ، والقربة لينة وعندما توضع على ظهر واحد أو على ظهر الدابة فمن ليونتها تخرج الماء فتكظم وتربط بإحكام كي لا يخرج منها شيء . كذلك الغيظ يفعل في النفس البشرية ، إنه يهيجها ، والله لا يمنع الهياج في النفس لأنه انفعال طبيعي ، والانفعالات الطبيعية لو لم يردها الله لمنع أسبابها في التكوين الإنساني . إنما هو يريدها لأشياء مثلاً : الغريزة الجنسية ، هو يريدها لبقاء النوع ، ويضع من التشريع ما يهذبها فقط ، وكذلك انفعال الغيظ ، إن الإسلام لا يريد من المؤمن أن يُصَبَّ في قالب من حديد لا عواطف له ، لا ، هو سبحانه يريد للمؤمن أن ينفعل للأحداث أيضاً ، لكن الانفعال المناسب للحدث ، الانفعال السامي الانفعال المثمر ، ولا يأتي بالانفعال المدمر . لذلك يقول الحق : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً … } [ الفتح : 29 ] . فالمؤمن ليس مطبوعاً على الشدة ، ولا على الرحمة ، ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف الإنسان ، فالحق سبحانه يقول : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] . وهل هناك من هو ذليلٌ عزيزٌ معاً ؟ نقول : المنهج الإيماني يجعل المؤمن هكذا ، ذلة على أخيه المؤمن وعزة على الكافر . إذن فالإسلام لا يصب المؤمنين في قالب كي لا ينفعلوا في الأحداث . ومثال آخر : ألم ينفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم ؟ لقد انفعل وبكى وحزن . إن الله لا يريد المؤمن من حجر . بل هو يريد المؤمن أن ينفعل للأحداث ولكن يجعل الانفعال على قدر الحدث ، ولذلك قال سيدنا رسول الله عند فراق ابنه : " إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " . ولا نقول لحظة الانفعال ما يسخط الرب . بل انفعال موجّه ، والغيظ يحتاج إليه المؤمن حينما يهيج دفاعاً عن منهج الله ، ولكن على المؤمن أن يكظمه . أي لا يجعل الانفعال غالباً على حسن السلوك والتدبير . والكظم - كما قلنا - مأخوذ من أمر محس . مثال ذلك : نحن نعرف أن الإبل أو العجماوات التي لها معدتان ، واحدة يُختزن فيها الطعام ، وأخرى يتغذى منها مباشرة كالجمل مثلاً ، إنه يجتر . ومعنى : يجتر الجمل أي يسترجع الطعام من المعدة الإضافية ويمضغه ، هذا هو الاجترار . فإذا امتنع الجمل عن الاجترار يقال : إن الجمل قد كظم . والحق سبحانه يقول : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } [ آل عمران : 134 ] . وقلنا : إن هناك فرقاً بين الانفعال في ذاته ، فقد يبقى في النفس وتكظمه ، ومعنى كظم الانفعال : أن الإنسان يستطيع أن يخرجه إلى حيز النزوع الانفعالي ، ولكنّه يكبح جماح هذا الانفعال . أما العفو فهو أن تخرج الغيظ من قلبك ، وكأن الأمر لم يحدث ، وهذه هي مرتبة ثانية . أما المرتبة الثالثة فهي : أن تنفعل انفعالاً مقابلاً أي أنك لا تقف عند هذا الحد فحسب ، بل إنك تستبدل بالإساءة الإحسان إلى من أساء إليك . إذن فهناك ثلاث مراحل : الأولى : كظم الغيظ . والثانية : العفو . والثالثة : أن يتجاوز الإنسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسيء إليه . وهذا هو الارتقاء في مراتب اليقين لأنك إن لم تكظم غيظك وتنفعل ، فالمقابل لك أيضاً لن يستطيع أن يضبط انفعاله بحيث يساوي انفعالك ، ويمتلئ تجاهك بالحدة والغضب ، وقد يظل الغيظ نامياً وربما ورّث أجيالا من أبناء وأحفاد . لكن إذا ما كظمت الغيظ ، فقد يخجل الذي أمامك من نفسه وتنتهي المسألة . { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } [ آل عمران : 134 ] مأخوذة من " عفّى على الأثر " والأثر ما يتركه سير الناس في الصحراء مثلاً ، ثم تأتي الريح لتمحو هذا الأثر . ويقول الحق في تذييل الآية : { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . وقلنا في فلسفة ذلك : إننا جميعاً صنعة الله ، والخلق كلهم عيال الله . وما دمنا كلنا عيال الله فعندما يُسيء واحد لآخر فالله يقف في صف الذي أسيء إليه ، ويعطيه من رحمته ومن عفوه ومن حنانه أشياء كثيرة . وهكذا يكون المُسَاء إليه قد كسب . أليس من واجب المُسَاء إليه أن يُحسِن للمسيء ؟ . لكن العقل البشري يفقد ذكاءه في مواقف الغضب فالذي يسيء إلى إنسان يحسبه عدوٍّا . لكن على الواحد منا أن يفهم أن الذي يسيء إليك إنما يجعل الله في جانبك فالذي نالك من إيذائه هو أكثر مما سلبك هذا الإيذاء . هنا يجب أن تكون حسن الإيمان وتعطي المسيء إليك حسنة . ويضيف الحق من بعد ذلك في صفات أهل الجنة : { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ … } .