Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 183-183)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هم يدّعون ذلك ويقولون : ربنا قال لنا هذا في التوراة إياكم أن تؤمنوا برسول يأتيكم ، حتى يأتيكم بمعجزة مُحسة ، هذه المعجزة المُحسّة هي أن يقدم الرسول قرباناً فتنزل نار من السماء تأكله . هذا كان صحيحاً ، وكلنا نسمع قصة قابيل وهابيل : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المائدة : 27 - 28 ] . ونريد أن نقبل على القرآن ونتدبر : لماذا جاء هذا اللفظ : " فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " ؟ إن القبول من الله ، وهو مسألة سرية عنده ، فكيف نعرف نحن أن الله تقبل أو لم يتقبل ؟ لا بد أنه الله قد جعل للقبول علامة حسية . ونحن نعرف أن الإنسان قد يعمل عملاً فيقبله الله ، ونجد إنساناً آخر قد يعمل عملاً ولا يقبله الله والعياذ بالله ، فمن الذي أعلمنا أن الله قد قبل عمل إنسان وقربانه ، ولم يقبل عمل الآخر وقربانه ؟ . وبما أن القبول سر من أسرار الله إذن فلن نعرف علامة القبول إلا إذا كانت شيئاً مُحساً ، بدليل قوله : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ } [ المائدة : 27 ] . وقال الذي لم يتقبل الله قربانه : " لأقتلنك " كأن الذي قبل الله قربانه قد عرف ، والذي لم يتقبل الله قربانه قد عرف أيضاً ، إذن فلابد أن هناك أمراً حسياً قد حدث . وقلنا : إن الله كان يخاطب خلقه على قدر رشد عقولهم حساً ومعنى ولذلك كانت معجزاته سبحانه وتعالى للأنبياء السابقين لرسول الله هي من الأمور المُحسة . فالمعجزة التي آتاها الله لإبراهيم كانت ناراً لا تحرق ، وعصا سيدنا موسى تنقلب حية ، وسيدنا عيسى عليه السلام يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله . والمعجزة الحسية لها ميزة أنها تقنع الحواس ، ولكنها تنتهي بعد أن تقع لمرة واحدة . لكن المعجزة العقلية التي تناسب رشد الإنسانية ، هي المعجزة الباقية ، وحتى تظل معجزة باقية فلا يمكن أن تكون حسية . إذن فعندما تأتي معجزة خالدة لرسول هو خاتم الرسل ، والذي سوف تقوم القيامة على المنهج الذي جاء به هذه المعجزة لا بد أن تكون ذات أمد ممتدّ ، والامتداد يناقض الحسيّة لأن الحسّية تظل محصورة فيمن رآها ، والذي لم يرها لا يقولها ولا يؤمن بها إلا إذا كان على ثقة عظيمة بمن أخبره بها . وابنا آدم ، قابيل وهابيل قرّب كل منهما قرباناً . و " قُربان " مثلها في اللغة مثل " غفران " و " عُدوان " والقُربان هو شيء أو عمل يتقرب به العبد من الله . وقبول هذا العمل من البر هو سرّ من أسرار الله . فما الذي أدرى هؤلاء أن قربان هابيل قد تقبّله الله ولم يتقبّل الله قربان قابيل ؟ لابد أن تكون المسألة حسيّة . ولابد أن قابيل وهابيل قد اختلفا ، ولكن القرآن لم يقل لنا على ماذا اختلفا ، إنها دعوى أن واحداً منهما مُقرّب إلى الله أكثر ، ولكن بأي شكل ؟ لم يظهر القرآن لنا ذلك ، ولو كانت المسألة مهمة لأظهرها الله لنا في القرآن الكريم ، فلا تقل كان الخلاف على زواج أو غير ذلك . فالذي ظهر لنا من القرآن أن خلافاً قد وقع بينهما أو أنهما قد حكما السماء . ومبدأ تحكيم السماء لا يستطيع أحد أن ينقضه . وكان لكل واحد منهم شُبهة . وعندما قامت الشبهة التي لقابيل ضد الشبهة التي لهابيل ، فلا إقناع من صاحب شبهة ، ولذلك ذهبا إلى التحكيم . ونحن في عصرنا الحديث عندما نختلف على شيء فإننا نقول : نجري قرعة . وذلك حتى لا يرضخ إنسان لهوى إنسان آخر ، بل يرضخ الاثنان للقدر ، فيكتب كل منهما ورقة ثم يتركان ثالثاً يجذب إحدى الورقتين . أما هابيل وقابيل فيذكر القرآن الكريم : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ } [ المائدة : 27 ] . إذن فكل واحد منهما كانت له شبهة ، ولا أحد منهما بقادر على إقناع الثاني لذلك قال قابيل بعد أن قبل الله قربان هابيل : " لأقتلنك " فماذا قال هابيل ؟ . قال : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] . إذن فالذي يتقبل الله منه القربان هو الذي سيُقْتل . والذي يملأه الغيظ هو من لم يتقبل الله قربانه ، وهو الذي سوف يَقْتُل . فماذا قال صاحب القربان المقبول : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المائدة : 28 ] . إذن فهذا أهل لأن يتقبّل الله قربانه ، لأنه متيقظ الضمير بمنهج السماء ، وهذه حيثية لتقبل القربان . وحتى لا نظن أن الآخر " قابيل " كله شر لمجرد أن الشهوة سيطرت عليه ، لكن الحق يظهر لنا أن فيه بعض الخير ، ودليل ذلك قول الحق : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ المائدة : 30 ] . وهذا القول يدل على أنه تردد ، فلا يقال : " طوّعت الماء " ، ولكن يقال " طوّعت الحديد " ، فكأن الإيمان كان يعارض النفس ، إلا أن النفس قد غلبت وطوّعت له قتل أخيه . وعندما قتل قابيل أخاه وهدأت شرّة الغضب وسُعار الانتقام ، رأى أخاه مُلقى في العراء : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [ المائدة : 31 ] . وعلى هذا النسق قال اليهود : إن الله أوصانا ألا نؤمن برسول إلا بعد أن يأتي بمعجزة من المُحسّات . لماذا قالوا ذلك ؟ . قالوا ذلك لأن معجزة رسول الله الكبرى وهي القرآن الكريم لم تكن من ناحية المحسّات وانتهى عهد الإعجاز بالمحسّات فقط ، فرسولنا له معجزات حسية كثيرة ، ونظراً لأن هذه ينتهي إعجازها بانقضائها فكان القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة وهو الذي يناسب الرسالة الخاتمة ، فهم طلبوا أن تكون المعجزة بالمحسّات حتى يصنعوا لأنفسهم شبه عذر في أنهم لم يؤمنوا ، فقالوا ما أورده القرآن : { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا } [ آل عمران : 183 ] … إلخ . وعلمنا الحق في هذه الآية أن القربان تأكله النار ، ومن هذا نستنبط كيف تقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل ، لكي نفهم أن القرآن لا يوجد به أمر مكرر . والحق سبحانه يرينا ردوده الإلهية المقنعة الممتعة : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ } [ آل عمران : 183 ] … إلخ الآية . لقد جاءكم رسل قبل رسول الله بالقربان وأكلته النار ومع ذلك كفرتم . فلو كان كلامكم أيها اليهود صحيحاً ، لكنتم آمنتم بالرسل الذين جاءوكم بالقربان الذي أكلته النار . وهكذا يكشف لنا الحق أنهم يكذبون على أنفسهم ويكذبون على رسول الله ، وأنها مجرد " مماحكات " ولجاج وتمادٍ في المنازعة والخصومة . والحق سبحانه يأمر رسوله أن يسأل : { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 183 ] ؟ هو سبحانه يريد أن يضع لنا قضية توضح أن عهد المعجزات الحسيّة وحدها قد انتهى ، ورُشد الإنسانية وبلوغ العقل مرتبة الكمال قد بدأ لذلك أتى سبحانه بآية عقلية لتظلّ مع المنهج إلى أن تقوم الساعة . ولو كانت الآية حسّية لاقتصرت على المعاصر الذي شهدها وتركت من يأتي بعده بغير معجزة ولا برهان . أما مجيء المعجزة عقلية فيستطيع أي واحد مؤمن في عصرنا أن يقول : سيدنا محمد رسول الله وتلك معجزته . ولكن لو كانت المعجزة حسيّة وكانت قرباناً تأكله النار ، فما الذي يصير إليه المؤمن ويستند إليه من بعد ذلك العصر ؟ إن الحق يريد أن يعلمنا أن الذي يأتي بالآيات هو سبحانه ، وسبحانه لا يأتي بالآيات على وفق أمزجة البشر ، ولكنه يأتي بالآيات التي تثبت الدليل لذلك فليس للبشر أن يقترحوا الآية . هو سبحانه الذي يأتي بالآية ، وفيها الدليل . لماذا ؟ لأن البعض قد قال للرسول : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 90 - 93 ] . لقد كانت كل هذه آيات حسيّة طلبوها ، والله سبحانه وتعالى يرد على ذلك حين قال لرسوله : إن الذي منعه من إرسال مثل هذه الآيات هو تكذيب الأولين بها : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ … } [ الإسراء : 59 ] . فحتى هؤلاء الذين قالوا : لن نؤمن حتى تأتي بقربان تأكله النار قد جاءهم من قبل من يحمل معجزة القربان الذي تأكله النار ، ومع ذلك كذبوا ، إذن فالمسألة مماحكة ولجاج في الخصومة . ويُسلّي الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية الله لرسوله هنا تسلية بالنظير والمثل في الرسل . كأن الحق يوضح : إن كانوا قد كذبوك فلا تحزن فقد كذبوا من قبلك رسلاً كثيرين ، وأنت لست بِدعاً من الرسل .