Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 35-35)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وعندما تقرأ " إذْ " فلتعلم أنها ظرف ويُقدر لها في اللغة " اذكر " ، ويقال " إذ جئتك " أي " اذكر أني جئتك " . وعندما يقول الحق : { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 35 ] فبعض الناس من أهل الفتح والفهم يرون أن الحق سبحانه سميع عليم وقت أن قالت امرأة عمران : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } [ آل عمران : 35 ] ، وهم يحاولون أن يربطوا هذه الآية بما جاء قبلها ، بأن الله سميع وعليم . ونقف عند قول امرأة عمران : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } [ آل عمران : 35 ] . إننا عندما نسمع كلمة " محرراً " فمعناها أنه غير مملوك لأحد فإذا قلنا : " حررت العبد " يعني ينصرف دون قيد عليه . أو " حررت الكتاب " أصلحت ما فيه . إن تحرير أي أمر ، هو إصلاح ما فيه من فساد أو إطلاقه من أي ارتباط أو قيد . أما قولها : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } [ آل عمران : 35 ] هو مناجاة لله ، فما الدافع إلى هذه المناجاة لله ؟ إن امرأة عمران موجودة في بيئة ترى الناس تعتز بأولادها ، وأولاد الناس - كما نعلم - يحكمون حركة الناس ، والناس تحكم حركة أولادهم ، ويكد الناس من أجل أن يكون الأبناء عزوة ، وقرة عين ، ويتقدم المجتمع بذلك التواصل المادي ، ولم تعجب امرأة عمران بذلك ، لقد أرادت ما في بطنها محرراً من كل ذلك ، إنها تريده محرراً منها ، وهي محررة منه . وهذا يعني أنها ترغب في أن يكون ما في بطنها غير مرتبط بشيء أو بحب أو برعاية . لماذا ؟ لأن الإنسان مهما وصل إلى مرتبة اليقين ، فإن المسائل التي تتصل بالناس وبه ، تمر عليه ، وتشغله ، لذلك أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها محرراً من كل ذلك ، وقد يقال : إن امرأة عمران إنما تتحكم بهذا النذر في ذات إنسانية كذاتها ، ونرد على ذلك بما يلي : لقد كانوا قديماً عندما ينذرون ابناً للبيت المقدس فهذا النذر يستمر ما دامت لهم الولاية عليه ، ويظل كما أرادوا إلى أن يبلغ سن الرشد ، وعند بلوغ سن الرشد فإن للابن أن يختار بين أن يظل كما أراد والداه أو أن يحيا حياته كما يريد . إن بلوغ سن الرشد هو اعتراف بذاتية الإنسان في اتخاذ القرار المناسب لحياته . كانت امرأة عمران لا تريد مما في بطنها أن يكون قرة عين ، أو أن يكون معها ، إنها تريده محرراً لخدمة البيت المقدس ، وكان يستلزم ذلك في التصور البشري أن يكون المولود ذكراً لأن الذي كان يقوم بخدمة البيت هم الذكران . ونحن نعرف أن كلمة " الولد " يطلق أيضاً على البنت ، ولكن الاستعمال الشائع ، هو أن يطلق الناس كلمة " ولد " على الذكر . لكن معنى الولد لغوياً هو المولود سواء أكان ذكراً أم أنثى . وعندما نسمع كلمة " نذر " فلنفهم أنها أمر أريد به الطاعة فوق تكليف المكلف من جنس ما كلّفه به الله . إن الله قد فرض علينا خمس صلوات ، فإذا نذر إنسان أن يصلي عدداً من الركعات فوق ذلك ، فإن الإنسان يكون قد ألزم نفسه بأمر أكثر مما ألزمه به الله ، وهو من جنس ما كلف الله وهو الصلاة . والله قد فرض صيام شهر رمضان ، فإذا ما نذر إنسان أن يصوم يومي الاثنين والخميس أو صيام شهرين فالإنسان حر ، ولكنه يختار نذراً من جنس ما فرض الله من تكاليف ، وهو الصيام . والله فرض زكاة قدرها باثنين ونصف بالمائة ، ولكن الإنسان قد ينذر فوق ذلك ، كمقدار عشرة بالمائة أو حتى خمسين بالمائة . إن الإنسان حر ، ولكنه يختار نذراً من جنس ما فرض الله من تكاليف ، إن النذر هو زيادة عما كلف المكلف من جنس ما كلف سبحانه . وكلمة " نذرت " من ضمن معانيها هو أن امرأة عمران سيدة تقية وورعة ولم تكن مجبرة على النذر ، ولكنها فعلت ذلك ، وهو أمر زائد من أجل خدمة بيت الله . والنذر كما نعلم يعبر عن عشق العبد لتكاليف الله ، فيلزم نفسه بالكثير من بعضها . ودعت امرأة عمران الله من بعد ذلك بقبول ذلك النذر فقالت : " فتقبل مني " . " والتقبل " هو أخذ الشيء برضا ، لأنك قد تأخذ بكره ، أو تأخذ على مضض ، أما أن " تتقبل " فذلك يعني الأخذ بقبول وبرضا . واستجابة لهذا الدعاء جاء قول الحق : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ … } [ آل عمران : 37 ] . ونلاحظ أن امرأة عمران قالت في أول ما قالت : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ آل عمران : 35 ] ، ولم تقل : " يا الله " وهذا لنعلم أن الرب هو المتولي التربية ، فساعة ينادي " ربي " فالمفهوم فيها التربية . وساعة يُنادي بـ " الله " فالمفهوم فيها التكليف . إن " الله " نداء للمعبود الذي يطاع فيما يكلف به ، أما " رب " فهو المتولي التربية . قالت امرأة عمران : { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ آل عمران : 35 ] . هذا هو الدعاء ، وهكذا كانت الاستجابة : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } [ آل عمران : 37 ] وبعد ذلك تكلم الحق عن الأشياء التي تكون من جهة التربية . { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [ آل عمران : 37 ] . كل ذلك متعلق بالتربية وبالربوبية ، فساعة نادت امرأة عمران عرفت كيف تنادي ونذرت ما في بطنها . وبعد ذلك جاء الجواب من جنس ما دعت بقمة القبول وهو الأخذ برضا . { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } [ آل عمران : 37 ] . فالحسن هنا هو زيادة في الرضا ، لأن كلمة " قبول " تعطينا معنى الأخذ بالرضا ، وكلمة " حسن " توضح أن هناك زيادة في الرضا ، وذلك مما يدل على أن الله قد أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا ، وبشيء حسن ، وهذا دليل على أن الناس ستلمح في تربيتها شيئاً فوق الرضا ، إنه ليس قبولاً عادياً ، إنه قبول حسن . { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } [ آل عمران : 37 ] . مما يدل على أن امرأة عمران كانت تقصد حين نذرت ما في بطنها ، ألا تربي ما في بطنها إلى العمر الذي يستطيع فيه المولود أن يخدم في بيت الله . ولكنها نذرت ما في بطنها من اللحظة الأولى للميلاد . إنها لن تتنعم بالمولود ، ولذلك قال الحق : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [ آل عمران : 37 ] ، وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم . وبعد دعاء امرأة عمران ، يجيء القول الحكيم : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ … } .