Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 36-36)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لقد جاء هذا القول منها ، لأنها كانت قد قالت إنها نذرت ما في بطنها محرراً لخدمة البيت ، وقولها : " محرراً " تعني أنها أرادت ذكراً لخدمة البيت ، لكن المولود جاء أنثى . فكأنها قد قالت : ان لم أُمَكّنْ من الوفاء بالنذر ، فلأن قدرك سبق ، لقد جاءت المولودة أنثى . لكن الحق يقول بعد ذلك : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] . وهذا يعني أنها لا تريد إخبار الله ، ولكنها تريد أن تظهر التحسر ، لأن الغاية من نذرها لم تتحقق وبعد ذلك يقول الحق : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } [ آل عمران : 36 ] . فهل هذا من كلامها ، أم من كلام الله ؟ قد قالت : { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } [ آل عمران : 36 ] وقال الله : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } [ آل عمران : 36 ] . إن الحق يقول لها : لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى ، إن هذه الأنثى لها شأن عظيم . أو أن القول من تمام كلامها : { إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } [ آل عمران : 36 ] ويكون قول الحق : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] هو جملة اعتراضية ويكون تمام كلامها { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } [ آل عمران : 36 ] . أي أنها قالت : يا رب إن الذكر ليس كالأنثى ، إنها لا تصلح لخدمة البيت . وليأخذ المؤمن المعنى الذي يحبه ، وسنجد أن المعنى الأول فيه إشراق أكثر ، إنه تصور أن الحق قد قال : أنت تريدين ذكراً بمفهومك في الوفاء بالنذر ، وليكون في خدمة البيت ، ولقد وهبت لك المولود أنثى ، ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت ، وأنا أريد بالآية التي سأعطيها لهذه الأنثى مساندة عقائد ، لا مجرد خدمة رقعة تقام فيها شعائر . إنني سأجعل من هذه الآية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة . ولأنني أنا الخالق ، سأوجد في هذه الأنثى آية لا توجد في غيرها ، وهي آية تثبت طلاقة قدرة الحق ، ولقد قلت من قبل : إن طلاقة القدرة تختلف عن القدرة العادية ، إن القدرة تخلق بأسباب ، ولكن من أين الأسباب ؟ إن الحق هو خالق الأسباب أيضاً . إذن فما دام الخالق للأسباب أراد خلقاً بالأسباب فهذه إرادته . ولذلك أعطانا الحق القدرة على رؤية طلاقة قدرته لأنها عقائد إيمانية ، يجب أن تظل في بؤرة الشعور الإيماني ، وعلى بال المؤمن دائماً . لقد خلق الله بعضاً من الخلق بالأسباب كما خلقنا نحن ، وجمهرة الخلق عن طريق التناسل بين أب وأم ، أما خلق الحق لآدم عليه السلام فقد خلقه بلا أسباب . ونحن نعلم أن الشيء الدائر بين اثنين له قسمة عقلية ومنطقية ، فما دام هناك أب وأم ، ذكر وأنثى ، فسيجيء منهما تكاثر … إن الحق يقول : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] . وعندما يجتمع الزوجان ، فهذه هي الصورة الكاملة ، وهذه الأولى في القسمة المنطقية والتصور العقلي ، وإما أن ينعدم الزوجان فهذه هي الثانية في القسمة المنطقية والتصور العقلي . أو أن ينعدم الزوج الأول ويبقى الطرف الثاني ، وهذه هي الثالثة في القسمة المنطقية والتصور العقلي ، أو أن ينعدم الزوج الثاني ويبقى الطرف الأول ، وهذه هي الرابعة في القسمة المنطقية والتصور العقلي . تلك إذن أربعة تصورات للقسمة العقلية . وجميعنا جاء من اجتماع العنصرين ، الرجل والمرأة . أما آدم فقد خلقه الله بطلاقة قدرته ليكون السبب . وكذلك تم خلق حواء من آدم . وأخرج الحق من لقاء آدم وحواء نسلاً . وهناك أنثى وهي مريم ويأتي منها المسيح عيسى ابن مريم بلا ذكر . وهذه هي الآية في العالمين ، وتثبت قمة عقدية . فلا يقولن أحد : ذكراً ، أو أنثى ، لأن نية امرأة عمران في الطاعة أن يكون المولود ذكراً ، وشاء قدر ربكم أن يكون أسمى من تقدير امرأة عمران في الطاعة ، لذلك قال : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } [ آل عمران : 36 ] . أي أن الذكر لن يصل إلى مرتبة هذه الأنثى . وقالت امرأة عمران : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ آل عمران : 36 ] . إن امرأة عمران قالت ما يدل على شعورها ، فحينما فات المولودة بأنوثتها أن تكون في خدمة بيت الله فقد تمنت امرأة عمران أن تكون المولودة طائعة ، عابدة ، فسمتها " مريم " لأن مريم في لغتهم - كما قلنا - معناها " العابدة " . وأول ما يعترض العبودية هو الشيطان . إنه هو الذي يجعل الإنسان يتمرد على العبودية . إن الإنسان يريد أن يصير عابداً ، فيجيء الشيطان ليزين له المعصية . وأرادت إمرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغ الشيطان لأنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان ، وقد سمتها " مريم " حتى تصبح " عابدة لله " ، ولأن إمرأة عمران كانت تمتلك عقلية إيمانية حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله لذلك قالت : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ آل عمران : 36 ] . إن المستعاذ به هو الله ، والمستعاذ منه هو الشيطان ، وحينما يدخل الشيطان مع خلق الله في تزيين المعاصي ، فهو يدخل مع المخلوق في عراك ، ولكن الشيطان لا يستطيع أن يدخل مع ربه في عراك ، ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر الله فإنه يخنس أي يتراجع ، ووصفه القرآن الكريم بأنها " الخنَّاس " ، إن الشيطان إنما ينفرد بالإنسان حين يكون الإنسان بعيداً عن الله ، ولذلك فالحق يُعَلِّمُ الإنسان : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 200 ] . إن الشيطان يرتعد فرقاً ورعشة من الاستعاذة بالله . وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان بهذه الكلمة فإنه يعرف أن هذا الإنسان العابد لن يحيد عن طاعة الله إلى المعاصي . وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجيء الرجل امرأته ، ومجيء الأهل هو مظنة لمولود قد يجيء ، فيقول العبد : " اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني " من دعاء رسول الله . إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق " فلن يكون للشيطان ولاية أو قدرة على المولود الذي يأتي بإذن الله " . ولذلك قالت إمرأة عمران : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ آل عمران : 36 ] . والذرية قد يفهمها الناس على أنها النسل المتكاثر ، ولكن كلمة " ذرية " تطلق على الواحد وعلى الاثنين ، وعلى الثلاثة أو أكثر . والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى عليه السلام ، وتنتهي المسألة . وبعد دعاء إمرأة عمران { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ آل عمران : 36 ] يجيء القول الحق : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا … } .