Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 37-37)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد عرفنا القبول الحسن والإنبات الحسن ، أما قوله الحق : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [ آل عمران : 37 ] فهذا يعني أن المسألة جاءت من أعلى ، إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن ، وهو الذي أنبتها نباتاً حسناً . إذن ، فرعاية زكريا لها إنما جاءت بأمر من الله . والدليل على ما حدث عند كفالة مريم . لقد اجتمع كبار القوم رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من أجل ذلك . وساعة تجد قرعة ، أو إسهاماً . فالناس تكون قد خرجت من مراداتها المختلفة إلى مراد الله . فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة ، ويخصص سهم لكل مشترك فيها ، ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه ، ويلجأ الناس لهذا الأمر ليمنعوا هوى البشر عن التدخل في الاختيار ، ويصبح الأمر خارجاً عن مراد البشر إلى مراد الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم . ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] . إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة ، وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة بالنسبة لكفالتها ، ولا يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إلا إذا كان قد حدث تنازع بينهم ، عن أيهم يكفل مريم ، ومن فضل الله أن زكريا عليه السلام كان متزوجاً من " إشاع " " أخت " " حنة " وهي أم مريم ، فهو زوج خالتها . وكلمة " أقلامهم " قال فيها المفسرون : إنها القداح التي كانوا يصنعونها قديماً ، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة ، فرموها في البحر ، فمن طفا قلمه لم يأخذ رعاية مريم ، ومن غرق قلمه في البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم . إذن فهم قد خرجوا عن مراداتهم إلى مراد الله . والخروج عن المرادات ، والخروج عن الأهواء بجسم ليس له اختيار - كقداح القرعة - لا يوجد في النفس غضاضة . لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغصب فلا بد أن يجد نفوس الآخرين وقد امتلأت بالمرارة أو الغضب . ولذلك فقد كان سائداً في ذلك العصر عملية إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن بأحد ، وهناك قصة سيدنا يونس عندما قاربت السفينة على الغرق ، وكان لا بد لإنقاذها أن ينزل واحد إلى البحر ، وجاء القول الحكيم : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ * فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 139 - 144 ] . كان لا بد أن ينزل واحد من تلك السفينة ، لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى لا تقوم معركة بين الموجودين على ظهر السفينة ، وحتى لا تكون الغلبة للأقوياء ، ولكن القرعة حمت الناس من ظلم بعضهم بعضاً . قالوا : لنجر قرعة السهام ، فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به ، وكان على يونس عليه السلام أن ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت . ولأنه من المسبحين فإن الله ينقذه . لقد قبل يونس عليه السلام اختيار الله ولم ينس تسبيح الله فكان في ذلك الإنقاذ له . وهكذا نقرأ قول الله لنفهم أن كفالة زكريا كانت باختيار الله . { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [ آل عمران : 37 ] . وكلمة " كفلها " أي تولى كل مهمة تربيتها ، هذه هي الكفالة ، ونحن نعرف أن الكفيل في عرفنا هو الضامن ، والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز الإنسان عن السداد ، وقوله الحق : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [ آل عمران : 37 ] يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا عليه السلام هو الذي قام برعاية شئون مريم . ويتابع الحق الكريم قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 37 ] إنه لم يدخل مرة واحدة ، بل دخل عليها المحراب مرات متعددة . وكان زكريا عليه السلام كلما دخل على مريم يجد عندها الرزق ، ولذلك كان لا بد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق ، ولا بد أن يكون تساؤله معبرا عن الدهشة ، لذلك يجيء القول الحق على لسان زكريا : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [ آل عمران : 37 ] . وساعة أن تسمع " أنى لك هذا ؟ " فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على المكان الذي توجد به مريم ، وإلا لظن أن هناك أحداً قد دخل على مريم ، وكما يقولون : فإن زكريا كان يقفل على مريم الأبواب . وإلا لو كانت الأبواب غير مغلقة لظن أن هناك من دخل وأحضر لها تلك الألوان المتعددة من الرزق . والرزق هو ما ينتفع به - بالبناء للمجهول - وعندما يقول زكريا عليه السلام : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [ آل عمران : 37 ] . فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقاً من أن أي إنسان وكله الله على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد من الطاقة أو حدود الدخل ، فلا بد أن يسأل كُلاًّ منهم : من أين لك هذا ؟ ذلك أن فساد البيوت والمجتمعات إنما يأتي من عدم الإهتمام بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال المحدد : من أين لك هذا ؟ إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستاناً مرتفع الثمن ويفوق طاقة الأسرة ، أو يجد ابنه قد اشترى شيئاً ليس في طاقة الأسرة أن تشتريه ، هنا يجب أن يتوقف الأب أو الولي ليسأل : من أين لك هذا ؟ إن في ذلك حماية لأخلاق الأسرة من الانهيار أو التحلل . فلو فطن كل واحد أن يسأل أهله ومن يدخلون في كفالته - " من أين لك هذا ؟ " لعرف كل تفاصيل حركتهم ، لكن لو ترك الحبل على الغارب لفسد الأمر . وقول زكريا : " أنّى لك هذا ؟ " هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق ، ولننظر إلى إجابتها : { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 37 ] ثم لا تدع البديهة الإيمانية عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها لا تنسى حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] وأثارت هذه المسألة في نفس زكريا نوازع شتى إنها مسألة غير عادية ، لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي عندها هو من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، إنه الإله هو القادر على أن يقول : " كن " فيكون . وهنا ذكر زكريا نفسه ، وكأن نفسه قد حدثته : " إذا كانت للقدرة طلاقة في أن تفعل بلا أسباب ، وتعطي من غير حساب ، فأنا أريد ولداً يخلفني ، رغم أنني على كبر ورغم بلوغي من السن عتيّا ، وامرأتي عاقر . إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على مريم هي التي نبهت زكريا إلى ما يتمنى ويرغب . ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة ، ولكن لا يستقر في بؤر الشعور إلا الذي يصر عليه الإنسان ، وهناك فرق بين معلومات توجد في بؤرة الشعور . ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم ، فلما وجد زكريا الرزق المنوع عند مريم وقالت له عن مصدره : { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . هنا تساءل زكريا : كيف فاتني هذا الأمر ؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ … } .