Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 3-3)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط ، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضاً لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء ، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني . إذن لابد أن تنزل القيم . لذلك قال سبحانه : { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ } [ آل عمران : 3 ] و " نزل " تفيد شيئاً قد وجب عليك لأن النزول معناه : شيء من أعلى ينزل ، وهو يقول لك : لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك لأنها ليست من مساو لك ، إنها من خالق الكون والبشر ، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن هو أدنى منك . لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأبّ عليه لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة ، فقال : { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } [ آل عمران : 3 ] . وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الإسراء : 105 ] . ولكن هل نزل القرآن وحده ؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه " نزل " ، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الإسراء : 105 ] . وبذلك تتساوى " أنزل " مع " نزل " . وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل : أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن ؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاماً وينزل القرآن حسب الحوادث ، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث . ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] . والحق هنا يحدد زمناً . ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاماً هو الذي أنزله الله في ليلة القدر . إذن فللقرآن نزولان اثنان : الأول : إنزال من " أنزل " . الآخر : تنزيل من " نَزَّل " . إذن فالمقصود من قوله - سبحانه - : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون ، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر . والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجماً على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعاً أو إيضاحاً لأمر . لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل ، لقد نزلت مرة واحدة لا حسب الأحداث والمناسبات ، لقد جاءت مرة واحدة ، كما نزل القرآن أولاً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا . ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول : { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [ آل عمران : 3 ] . وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن : " نَزَّل " وقال عن التوراة والإنجيل : " أنزل " . لقد جاءت همزة التعدية وجمع - سبحانه - بين التوراة والإنجيل في الإنزال ، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة ، أما القرآن الكريم فقد نَزَّله الله في ثلاث وعشرين سنة منجماً ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين ، ومتضمناً البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث . ونَزَّل الله القرآن منجماً مناسباً للأحداث ، ليثبت فؤاد رسول الله لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعرض لأحداث شتى ، وكلما يأتي حدث يريد تثبيتاً ينزل نجم من القرآن . { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] . وكان النجم من القرآن ينزل ويحفظه المؤمنون ، ويعملون بهديه ، ثم ينزل نجم آخر ، والله سبحانه يقول : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } [ الفرقان : 33 ] . فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح لهم المجال لأن يسألوا ، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم . وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاماً فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن ، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة ، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به . ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقاً للأدوية مُمتلئاً بألوان شتى من الدواء ، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين ، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه ، وذلك أسهل وأوثق . والحق سبحانه قد جمع للقرآن بين " نزّل " و " أنزل " فقال : { مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ … } .