Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 4-4)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ويأتي القول الفصل في : { وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ } [ آل عمران : 4 ] . هنا الجمع بين " نزل " و " أنزل " . وساعة يقول الحق عن القرآن : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ آل عمران : 3 ] فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه إنه مصدق لما قبله ولما سبقه ، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام ، فهناك حكم يناسب زمناً وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن . أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل ، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل ، فليس في تلك الأمور تغيير . ومعنى " مصدق " أي أن يطابق الخبر الواقع ، وهذا ما نسميه " الصدق " . وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه " كذباً " . إذن ، فالواقع هو الذي يحكم . ولذلك قلنا من قبل : إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث لأنه يستوحي واقعاً ، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها وتفاصيلها ، أما الكاذب فلا يوجد له واقع يحكي عنه ، لذلك يُنشئ في كل حديث واقعاً جديداً ، ولذلك يقول الناس : " إن كنت كذوباً فكن ذكوراً " . أي إن كنت تكذب - والعياذ بالله - فتذكر ما قلت حتى لا تناقضه بعد ذلك . فالصادق هو من يستقرئ الواقع ، وما دام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء ، فلا يحكي مرة بهوى ، ومرة بهوى آخر . وما دام الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا : { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ } [ آل عمران : 3 - 4 ] . وقد تكلمنا من قبل عن التوراة ، وقلنا : إن بعضاً من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية ، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية ، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية ، فقال بعضهم من التوراة : إنها من " الوَرْى " - بسكون الراء - وكان الناس قديماً يشعلون النار بضرب عود في عود آخر ، ويقولون : " الزَّند قد ورى " ، أي قد خرجت ناره . وقال بعض العلماء أيضاً : إن الإنجيل من " النجْل " ، وهو الزيادة . وأقول لهؤلاء العلماء : لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية ، لكن التوراة لفظ عبري ، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني ، وصارت تلك الكلمات علماً على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا . ولا تظنوا أن القرآن ما دام قد نزل عربياً فكل ألفاظه عربية ، لا . صحيح أن القرآن عربي ، وصحيح أيضاً أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب ، وإذا تم النطق بها يُفهم معناها . والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة " بنك " وتكلمنا بها ، فأصبحت عربية لأنها تدور على اللسان العربي ، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها ، وهي دائرة في ألسنتهم ، وإن لم تكن في أصلها عربية . وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال : إن القرآن جاء مصدقاً لهما قال - جل شأنه - : { مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } [ آل عمران : 4 ] . فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ آل عمران : 4 ] ؟ لا شك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب . وإذا كان القرآن قد جاء مصدقاً لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضاً ؟ نعم هي هداية لنا ، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لهما ، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوباً إليهما حجة علينا . فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا ، فيكون { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ آل عمران : 4 ] معناها : الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب ، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها . وحين يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ } [ آل عمران : 4 ] يدل على أن الكتاب - أي القرآن - سيعاصر مهمة صعبة فكلمة " الفرقان " لا تأتي إلا في وجود معركة ، ونريد أن نفرق بين أمرين : هدى وضلال ، حق وباطل ، شقاء وسعادة ، استقامة وانحراف ، إذن فكلمة " الفرقان " تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر ، وما دام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر ، وفيه شر وله معسكر ، إذن ففيه فريقان . ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية بقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } [ آل عمران : 4 ] . ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية ؟ أي ما دام القرآن فرقاناً فلابد أن يفرق بين حق وباطل ، والحق له جنوده ، وهم المؤمنون ، والباطل له جنوده وهم الكافرون ، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ آل عمران : 4 ] . والعذاب إيلام ، ويختلف قُوّة وضعفاً باعتبار المؤلم المباشر للعذاب . فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي ، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته ، فإذا كان العذاب صادراً من قوة القوي وهو الله ، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق . { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } [ آل عمران : 4 ] أي لا يُغلب على أمره ، ولا توجد قوة أخرى ضده ، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده . وقوله الحق سبحانه وتعالى : إنه " قيّوم " أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً وإمداداً ، بناء مادة وإيجاد قيم ، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا ، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم ، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله ، لماذا ؟ لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم ، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه ، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن ، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون لأنه قد جدّت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري . ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري ؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره ، وأيضاً يقنن لملكات خفية عنه . إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوماً ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل ، فهو - سبحانه - يعلم علماً واسعاً ، بحيث لا يُستدرك عليه ، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا : إن هذا الحكم غير ملائم للعصر ، نقول لهم : أتستدركون على الله ؟ ! كأنكم تقولون : إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له ! . لا ، لا تستدركوا على الله ، وخذوا حكم الله هكذا لأن هذا هو الحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه حكم من عالم لا يتجدد علمه ، ولا يطرأ شيء على علمه ، وفوق كل ذلك فهو سبحانه لا ينتفع بما يقنن ، وهو سبحانه يقول : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي … } .