Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 40-41)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ آل عمران : 40 ] . إن زكريا - وهو الطالب - يصيبه التعجب من الاستجابة فيتساءل . كيف يكون ذلك ؟ والحق يورد ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائماً تكون في دائرات التلوين ، وليست في دائرات التمكين ، وذلك ليعطي الله لخلقه الذين لا يهتدون إلى الصراط المستقيم الأسوة في أنه إذا ما حدث له ابتلاء فعليه الرجوع إلى الله ، فيقول زكريا : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] . إن بلوغ الكبر ليس دليلاً على أنه عاجز عن الإنجاب لأنه يكون كبير العمر ، وقادراً على إخصاب امرأة ، ذلك أن الإخصاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمراً عسيراً مهما بلغ من العمر إن لم يكن عاقراً ، ولكن المرأة هي العنصر المهم ، فإن كانت عاقراً ، فذلك قمة العجز في الأسباب . ولو أن زكريا قال فقط : " وامرأتي عاقر " لكان أمراً غير مستحب بالنسبة لزوجته ، ولكان معنى ذلك أنه نسب لنفسه الصلاحية وهي غير القادرة . إنه أدب النبوة وهو أدب عال لذلك أوردها من أولها : { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] ولنر دقة القول في : " بلغني الكبر " ، إنه لم يقل : " بلغت الكبر " بل يقول : إن الكبر هو الذي جاءني ولم أجيء أنا إلى الكبر لأن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساساً ورغبة في أن تذهب إليه ، وذكر زكريا " وامرأتي عاقر " هو تضخيم لطلاقة القدرة عند من يستمع للقصة ، لقد أورد كل الخوالج البشرية ، وبعد ذلك يأتي القول الفصل : { قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ آل عمران : 40 ] إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب . ويقول زكريا : { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ] . إن زكريا يطلب علامة على أن القول قد انتقل إلى فعل . { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 8 - 9 ] . لقد كان هذا القول تأكيداً لا شك فيه ، فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى الأمر . فماذا يريد زكريا من بعد ذلك ؟ إنه يطلب آية ، أي علامة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم أمه ، وما دامت المرأة قد كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض ، ولا بد أنه عرف الآية لأنه يعرف مسبقاً أنها عاقر . لكن زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات الله عليه ، وما دام الحمل قد حدث فهنا كانت استغاثة زكريا ، لا تتركني يا رب إلى أن أفهم بالعلامات الظاهرة المحسة ، لأنني أريد أن أعيش من أول نعمتك عليّ في إطار الشكر لك على النعمة ، فبمجرد أن يحدث الإخصاب لا بد أن أحيا في نطاق الشكر لأن النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر . إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر ، إنه لم يطلب آية لأنه يشك - معاذ الله - في قدرة الله ، ولكن لأنه لا يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إلا ومعها الشكر عليها ، والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ] . لا بد أن معناها أنه يرغب في الكلام فلا يستطيع . إن هناك فارقاً بين أن يقدر على الكلام ولا يتكلم ، وبين ألا يقدر على الكلام . وما دامت الآية هبة من الله . فالحق هو الذي قال له : سأمنعك من أن تتكلم ، فساعة أن تجد نفسك غير قادر على الكلام فاعرف أنها العلامة ، وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزاً ، أي بالإشارة ، وحتى تعرف أن الآية قادمة من الله ، وأن الله علم عن عبده أنه لا يريد أن تمر عليه لحظة مع نعمة الله بدون شكر الله عليها ، فإننا نعلم أن الله سينطقه … { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ] . لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكراً ، وجعل كل وقته ذكراً ، فلم ينشغل بالناس أو بكلام الناس ، وذكر الرب كثيراً هو ما علمه - سبحانه - عن زكريا عندما طلب الآية ليصحبها دائماً بشكر الله عليها ، إن قوله : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً } [ آل عمران : 41 ] تفيد أن زكريا قادر على الذكر وغير قادر على كلام الناس ، لذلك لا يريد الله أن يشغله بكلام الناس ، وكأن الله يريد أن يقول له : ما دمت قد أردت أن تعيش مع النعمة شكراً فسأجعلك غير قادر على الكلام مع الناس لكنك قادر على الذكر . والذكر مطلقاً هو ذكر الله بآلائه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له ، والتسبيح هو التنزيه لله ، لأن ما فعله الله لا يمكن أن يحدث من سواه ، فسبحان الله ، معناها تنزيه لله ، لأنه القادر على أن يفعل ما لا تفعله الأسباب ولا يقدر أحد أن يصنعه . إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب . تلك اللفتة … التي جاءت من قبل من مريم لزكريا . وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها ، فكونها تنطق بهذه العبارة دلالة على أن الله مهد لها بالرزق ، يجيئها من غير زكريا ، بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب . وكأن التجربة قد أراد الله أن تكون من ذاتها لذاتها لأنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة ، فلا بد أن تعلم مسبقاً أن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، وبدون أسباب . فإن جاءت بولد بدون سبب من أبوة لتعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب . فلما سمع زكريا منها ذلك قال : ما دام الله يرزق من غير حساب ويأتي بالأشياء بلا أسباب فأنا قد بلغت من الكبر عتياً ، وامرأتي عاقر ، فلماذا لا أطلب من ربي أن يهبني غلاماً ؟ إذن فمقولة مريم : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] قد لفتت زكريا ، ونبهت إيماناً موجوداً في أعماقه وحاشية شعوره ، ولا نقول أوجدت إيماناً جديداً لزكريا بأن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، ولكنها أخرجت القضية الإيمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور ، فقال زكريا : ما دام الأمر كذلك فأنا أسأل الله أن يهبني غلاماً … وقول زكريا : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران : 38 ] دل على أنه وزوجته لا يملكان اكتساب الأبوة والأمومة ولذلك طلب الهبة من الله . والهبة شيء بدون مقابل . فلما سأل الله ذلك استجاب الله له ، وقال له سبحانه : سأهبك غلاماً بدون أسباب من خصوبتك في التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل ، وما دامت المسألة ستكون بلا أسباب وأنا - الخالق - سأتولى الإيجاب بـ " كن " ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئاً آخر تقومون به أنتم معشر الآباء والأمهات - عادة - إنه تسمية المولود ، فأفاض الحق عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد أن وهبه لهما … هنا وقفة عند الهبة بالاسم . { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 39 ] . حين يولد للناس ولد فهم يسمونه ، فالتسمية أمر شائع في عادات الناس . ولكن من يهمهم أمر الوليد حينما يقبلون على تسميته فهم يحاولون أن يتفاءلوا فيسموه اسماً يرجون أن يتحقق في المسمى ، فيسمونه " سعيداً " أملاً في أن يكون سعيداً ، أو يسمونه " فضلاً " أو يسمونه " كريماً " . إنهم يأتون بالاسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته وذلك هو الأمل منهم ولكن أتأتي المقادير على وفق الآمال ؟ قد يسمونه سعيداً ، ولا يكون سعيداً . ويسمونه فضلاً ، ولا يكون فضلاً . ويسمونه عزاً ، ولا يكون عزاً . ولكن ماذا يحدث حين يسمي الله سبحانه وتعالى ؟ لا بد أن يختلف الموقف تماماً ، فإذا قال اسمه " يحيـى " دل على أنه سيعيش . وقديماً قال الشاعر حينما تفاءل بتسمية ابنه يحيى : @ فسميته يحيا ليحيا فلم يكن لرد قضاء الله فيه سبيل @@ كان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أملاً أن يحيا ، ولكن الله لم يرد ذلك ، فمات الابن . لماذا ؟ لأن المسميِّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي ، إن المسمي إنسان قدرته عاجزة ، ولكن " المحيى " له طلاقة القدرة ، فحين يسمى من له طلاقة القدرة على إرادة أن يحيا فلا بد من أن يحيا حياة متميزة ؟ وحتى لا تفهم أن الحياة التي أشار الله إليها بقوله : " اسمه يحيى " بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة - لأن الرجل حينما يسمى ابنه " يحيى " يأمل أن يحيا الابن متوسط الأعمار ، كما يحيا الناس ستين عاماً ، أو سبعين ، أو أي عدد من السنوات مكتوبة له في الأزل . لكن الله حينما يسمي " يحيى " فانه لا يأخذ " يحيى " على قدر ما يأخذه الناس ، بل لا بد أن يعطيه أطول من حدود أعمار الناس ، ويهيىء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيداً ، وهو بالشهادة يصير حياً ، فكأنه يحيا دائماً ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون . وهكذا أراد الله ليحيى عليه السلام أن يحيا كحياة الناس ، ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم الساعة ، وأيضاً نأخذ ملحظاً في أن زكريا حينما بُشِّر بأن الله سيهبه غلاماً ويسميه يحيى ، نجده قد استقبلها بالعجب . كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجباً مع أنه رآها في الرزق الذي كان يجده عند مريم ؟ { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . ولنا أن نقول : أكنت تحب أن يمر مثل هذا الأمر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا زكريا كأنه أمر عادي لا يندهش له ولا يتعجب ؟ لا ، لا بد أن يندهش ويتعجب لذلك قال : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [ آل عمران : 40 ] . فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة ، ولو لم تكن تلك الدهشة لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي . إذن ، فهو يلفتنا إلى الأمر العجيب الذي خصه الله به . وأيضاً جاءت المسألة على خلاف ناموس التكاثر والإنجاب والنسل : { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] . إن المسألة كلها تفضل وهبة من الله . فلما جاءته البشارة ، لم يقل الله له : إنني سأهبك الغلام واسمه يحيى من امرأتك هذه ، أو وأنت على حالتك هذه . فيتشكك ويتردد ويقول : أترى يأتي الغلام الذي اسمه " يحيى " مني وأنا على هذه الحالة ، امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر ، أو ربما ردنا الله شباب حتى نستطيع الإنجاب ، أو تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب . إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها الإنجاب فقوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي بها الإنجاب ، لأن الإنجاب يأتي على حالات متعددة . فلما أكد الله ذلك قال : " كذلك " ماذا تعني كذلك ؟ إنها تعني أن الإنجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما ، أنت قد بلغت من الكبر عتياً ، وامرأتك عاقر . لأن العجيبة تتحقق بذلك ، أكان من المعقول أن يردهما الله شباباً حتى يساعداه أن يهبهما الولد ؟ لا . لذلك قال الحق : { كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [ آل عمران : 40 ] . أي كما أنتما ، وعلى حالتكما . لقد جعل الحق الآية ألا يكلم زكريا الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة ، وقد يكون عدم الكلام في نظر الناس مرضاً … لا ، إنه ليس كذلك ، لأنّ الحق يقول له : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ] إن الحق يجعل زكريا قادراً على التسبيح ، وغير قادر على الكلام . وهذه قدرة أخرى من طلاقة قدرة الله ، إنه اللسان الواحد ، غير قادر على الكلام ، ولو حاول أن يتكلم لما استطاع ، ولكن هذا اللسان نفسه - أيضاً - يصبح قادراً فقط على التسبيح ، وذكر الله بالعشيّ والإبكار ، ذكر الله باللسان وسيسمعه الناس ، وذلك بيان لطلاقة القدرة . وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم ، لأن مريم هي الأصل في الكلام ، فالرزق الذي كان يأتيها من الله بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد ، وجاء الحق لنا بقصة زكريا والولد ، ثم عاد إلى قصة مريم : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ … } .