Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 42-42)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [ آل عمران : 42 ] المراد بها جبريل عليه السلام ، والسبب في أن الحق يورد ذلك بـ " قالت الملائكة " لأن كلام المتكلم - أي الإنسان - له - كما قلنا - زاوية انطلاق يأتي من جهتها الصوت . وتستطيع أن تتأكد من ذلك عندما يجيء لك صوت ، فأنت تجد ميل أذنك لجهة مصدر الصوت ، فإن جاء الصوت من ناحية أذنك اليمنى فأنت تلتفت وتميل إلى يمينك ، وإذا جاءك الصوت من شمالك تلتفت إلى الشمال . لكن المتكلم هنا هو جبريل عليه السلام ، ويأتي صوته من كل جهة حتى يصير الأمر عجيباً ، لهذا جاء الكلام منسوباً إلى الملائكة . فماذا قال جبريل ؟ قال جبريل مبلغاً عن رب العزة : { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] وما الاصطفاء ؟ إن الاصطفاء اختيار واجتباء ، وهو مأخوذ من الصفو أو الصافي ، أي الشيء الخالص من الكدر . وعادة تؤخذ المعاني من المحسات ، وعندما تقول الماء الصافي أي الماء غير المكدر ، أو كما يقول الحق : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى … } [ محمد : 15 ] . وعندما يقول الحق : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] نحن هنا أمام اصطفاءين ، الاصطفاء الأول ورد دون أن تسبقه كلمة " على " والاصطفاء الثاني تسبقه كلمة " على " والمقصود بالاصطفاء الأول هو إبلاغ مريم أن الله ميزها بالإيمان ، والصلاح والخلق الطيب ، ولكن هذا الاصطفاء الأول جاء مجرداً عن " على " أي أن هذا الاصطفاء الأول لا يمنع أن يوجد معها في مجال هذا الاصطفاء آخرون ، بدليل قول الحق : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 33 ] . ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها ، وجاء من بعد ذلك بالاصطفاء الثاني المسبوق بـ " على " فقال { وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الاصطفاء ، ولن يكون مجال الاصطفاء موضوعاً يتعلق بالرجولة فهي مصطفاة على نساء العالمين ، فكأنه لا توجد أنثى في العالمين تشاركها هذا الاصطفاء . لماذا ؟ لأنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر ، وهذه مسألة لن يشاركها فيها أحد . وقوله الحق : { وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] هذا القول يجب أن ينبه في نفسها سؤالاً هو : ما الذي تمتاز هي به عن نساء العالمين ؟ إن الذهن ينشغل بهذا الأمر ، وينشغل على أمر من وظيفة الأنثى ، ولنضم هذه إلى قول الحق على لسانها : { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ونجد أن هذه كلها إيناسات للحدث الذي سيأتي من بعد ذلك ، وهو حدث يتعلق بعرضها وعفافها ، فلا بد أن يمهد الله له تمهيداً مناسباً حتى تتأكد من أن هذه المسألة ليس فيها شيء يخدش العرض أو يخدش الكرامة . { وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] ولنا أن نسأل : ما نتيجة الاصطفاء ؟ لقد عرفنا أن الاصطفاء هو الاجتباء والاختيار ، ويقتضي " مصطفى " بفتح الفاء . ويقتضي " مصطفى " بكسر الفاء . والمصطفى هو الله ، لكن ما علة الاصطفاء ؟ إن الذي يصطفيه الله إنما يصطفيه لمهمة ، وتكون مهمة صعبة . إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس . كأن الله قد خصه بالاصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم ، سواء أكان هذا الاصطفاء لمكان أم لإنسان أم لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه . لقد اصطفى الله الكعبة من أجل ماذا ؟ حتى يتجه كل إنسان إلى الكعبة . إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر ، ولذلك قال الحق عن الكعبة : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96 ] . وإذا اصطفى الحق سبحانه زماناً ، كاصطفائه لرمضان ، فلماذا اصطفاه ؟ ليشيع صفاؤه ، وصفاء ما أنزل فيه في كل زمان . إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس أو الأمكنة أو الأزمنة ، لماذا ؟ لأن أحداً من الخلق ليس ابناً لله ، وليس هناك مكان أولى بمكان عند الله . ولكن الله يصطفي زماناً على زمان ، ومكاناً على مكان ، وإنساناً على إنسان ليشيع اصطفاء المُصطفَى في كل ما اصطُفِيَ عليه . إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى ، أو لا يفرحوا به ؟ إن عليهم أن يفرحوا به لأنه جاء لمصلحتهم ، والحق سبحانه يقول : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ … } .