Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 68-68)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولنا أن نلحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول الله إنما نزل لأمة محددة ، فموسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل ، وكذلك عيسى عليه السلام ، قال تعالى : { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [ آل عمران : 49 ] أي رسولاً مسلماً في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى هؤلاء الرسل ، فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج الإيماني بالرسالة الخاتمة ، وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك الأمم برسالته عليه الصلاة والسلام ، كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول الله ، واستمر موكب الإيمان بالدين الخاتم إلى أن وصل إلينا . وهكذا صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الأمم الإسلامية لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " . وحين يقولون : إن إبراهيم عليه السلام كان يهودياً أو نصرانياً . إنما أوردوا ذلك لأن إبراهيم عليه السلام فيه أبوة الأنبياء . وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية الإيمانية في محاولة لأن ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسوا أن المسألة الإيمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم ، أو أي انتماء آخر غير الانتماء لمنهج الله الواحد ، ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من ذريته ، بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد اتبع إبراهيم عليه السلام ، لذلك فلا علاقة لإبراهيم بمن جاء من نسله ، ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا الإيمان ، لقد حسم الله هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] . لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الأوامر والنواهي ، فأتمها إبراهيم عليه السلام تماماً على أقصى ما يكون من الالتزام ، ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية ، إنما كان إتماماً بالشكل والمضمون معاً . والمثال على تمام الأوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى الأمر من الله بأن يصلي خمسة فروض ، فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي ، لكن هناك إنساناً آخر يصلي هذه الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضموناً وشكلاً ، إنه يتم الأوامر الإلهية إتماماً يرضى عنه الله . ولقد أدى إبراهيم عليه السلام الابتلاءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من الله على أكمل وجه . ألم يأمر الله إبراهيم عليه السلام على أن يرفع القواعد من البيت ؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه السلام لينفذ الأمر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه ؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى الأمر ، لكن إبراهيم عليه السلام أراد أن يوفي الأمر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء ، فبنى الكعبة بما تطوله يداه ، وبما تطوله الحيلة أيضاً ، فجاء إبراهيم عليه السلام بحجر ليقف من فوقه ، ويزيد من طول جدار الكعبة مقدار الحجر ، لقد أراد أن يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته الابتكارية أيضاً ، فلم يكن معروفاً في ذلك الزمان " السقالات " وغير ذلك من الأدوات التي تساعد الإنسان على الارتفاع عن الأرض إلى أقصى ما يستطيع . ولو أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه لكان قد أدى تكليف الله ، لكنه أراد الأداء بإمكاناته الذاتية الواقعية ، وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره ، لذلك جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة ، وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام بـ " مقام إبراهيم " فلما أتم إبراهيم الكلمات هذا الإتمام قال الحق سبحانه لإبراهيم : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً … } [ البقرة : 124 ] . إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماماً للناس في دينهم لأنك أديت " افعل ولا تفعل " بتمام وإتقان . ولنر غيرة إبراهيم عليه السلام على منهج ربه ، إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته فقط ، ولكنه طلب من الله أن يظل المنهج والإمامة في ذريته ، فقال الحق سبحانه على لسان إبراهيم طالباً استمرار الأمانة في ذريته : { وَمِن ذُرِّيَّتِي … } [ البقرة : 124 ] . إن سيدنا إبراهيم قد امتلأ بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته ، لكن الحق سبحانه وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلال إبراهيم فيقول سبحانه : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] . أي أن المسألة ليست وراثة ، لأنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالماً لنفسه ويعدل في المنهج بما يناسب هواه ، وهو بذلك لا تتوافر فيه صفات الإمامة . إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة ، إن تلك القواعد تقضي أن يرث الأنبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف ، والمثال على ذلك ما علمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لسلمان الفارسي : " سلمان منا آل البيت " . إن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل لسلمان الفارسي " أنت من العرب " لا . بل نسبه لآل البيت ، أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الإرث من تطبيق المنهج بتمامه ، لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلام عن إرث النبوة ، فليس هذا الإرث بالدم ، إنما بتطبيق المنهج نصاً وروحاً ، كما تعلم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلام ، لقد وعد الحق نوحاً بأن ينجيه وأهله من الطوفان ويرى نوح عليه السلام ابنه مشرفاً على الغرق ، فيتساءل " ألم يعدني الله أن ينجي أهلي ؟ " فينادي نوح عليه السلام ربَّه ، بما أورده القرآن الكريم حين قال : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [ هود : 45 ] . فيقول الحق رداً على طلب نوح نجاة ابنه : { قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [ هود : 46 ] . ولننظر إلى التعليل القرآني لانتفاء الأهلية عن ابن نوح عليه السلام " إنه ليس من أهلك " ؟ لماذا ؟ " إنه عمل غير صالح " . إن الحق لم يقل " إنه عامل غير صالح " - الذاتية ممنوعة - لأن الفعل هو الذي يحاسب به الله فالإيمان ليس نسباً ، ولا انتماء لبلد ما ، أو انتماء لقوم ما ، إنه العمل ، فمن يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول ، إنَّ النسبة للأنبياء لا تأتي للذات التي تنحدر من نسب النبي ، بل يكون الانتساب للأنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات . وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفاً يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم ومن كفر . لقد طلب إبراهيم عليه السلام سعة الرزق لأهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة ، كما جاء في الكتاب الكريم : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ … } [ البقرة : 126 ] . فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة ؟ لا ، بل رَزَقَ المؤمن والكافر . وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له : { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 126 ] . إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق ، مؤمنهم وكافرهم ، والاقتيات المادي مكفول من قبل الله لأنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا . أما رزق المنهج فأمر مختلف ، إن اتباع المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تحريف . وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم عليه السلام إلا القليل ، فمن آمن برسالة موسى عليه السلام دون تحريف هم قلة . ثم جاء عيسى عليه السلام برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى الإيمان بالغيب ، لكن رسالة عيسى عليه السلام تم تحريفها أيضاً ، وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالات ، وهؤلاء هم الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه السلام ، والله ولي المؤمنين جميعاً من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل الرحمن ، إيماناً صحيحاً كاملاً ، ومن آمن برسالة محمد عليه الصلاة والسلام … بعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ … } .