Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 22-22)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في خلق السماوات والأرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر إنها تقوم على غير عمد : { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا … } [ لقمان : 10 ] . فالسماء التي تروْنها على امتداد الأفق تقوم بغير أعمدة ، ولكم أنْ تسيروا في الأرض ، وأنْ تبحثوا عن هذه العُمد فلن تروْا شيئاً . أو { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا … } [ لقمان : 10 ] يعني : هي موجودة لكن لا ترونها . والمنطق يقتضي أن الشيء العالي لا بُدَّ له إما من عُمُد تحمله من أسفل ، أو قوة تُمسكه من أعلى لذلك ينبغي أنْ نجمع بين الآيات لتكتمل لدينا هذه الصورة ، فالحق سبحانه يقول في موضع آخر : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ … } [ فاطر : 41 ] . إذن : ليست للسماء أعمدة ، إنما يمسكها خالقها - عز وجل - من أعلى ، فلا تقع على الأرض إلا بإذنه ، ولا تتعجب من هذه المسألة ، فقد أعطانا الله تعالى مثالاً مُشَاهداً في قوله سبحانه : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ … } [ النحل : 79 ] . فإنْ قُلْت : يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء ، فترتفع به ، وتمسك نفسها في الجو ، نقول : وتُمسك أيضاً في جو السماء بدون حركة الجناحين ، واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ … } [ الملك : 19 ] . فترى الطير في السماء مادّاً جناحيه ثابتاً بدون حركة ، ومع ذلك لا يقع على الأرض ولا يُمسكه في جَوِّ السماء إذن إلا قدرة الله . إذن : خُذْ مما تشاهد دليلاً على صدْق ما لا تشاهد لذلك يقول سبحانه : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] مع أنها خُلِقت لخدمة الإنسان . فمع أنك أيها الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله ، وفيك انطوى العالم الأكبر ، إلا أن عمرك محدود لا يُعَدُّ شيئاً إذا قِيسَ بعمر الأرض والسماء والشمس والقمر … الخ . ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات الله في الإنسان : { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ … } [ الروم : 22 ] اللسان يُطلَق على اللغة كما قال تعالى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] وقال : { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] . ويُطلَق أيضاً على هذه الجارحة المعروفة ، وإنما أُطِلق اللسان على اللغة لأن أغلبها يعتمد على اللسان وعلى النطق ، مع أن اللسان يُمثِّل جزءاً بسيطاً في عملية النطق ، حيث يشترك معه في النطق الفم والأسنان والشفتان والأحبال الصوتية … إلخ ، لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية . إذن : فاختلاف الألسنة يعني اختلاف اللغات . وسبق أنْ قُلْنا : إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها الإنسان من البيئة المحيطة به ، وحين نسلسلها لا بُدَّ أنْ نصلَ بها إلى أبينا آدم عليه السلام ، وقلنا : إن الله تعالى هو الذي علَّمه اللغة حين علَّمه الأسماء كلها ، ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه الأسماء ليتفاهموا بها ، وليضيفوا إليها أسماء جديدة . لذلك نرى أولادنا مثلاً حينما نريد أنْ نُعلِّمهم ونُرقِّيهم نُعلِّمهم أولاً أسماء الأشياء قبل أنْ يتعلموا الأفعال لأن الاسم أظهر ، أَلاَ ترى أن الفِعْل والحدث يدل عليه باسم ، فكلمة فِعْل هي ذاتها اسم . لكن ، كيف ينشأ اختلاف اللغات ؟ لو تأملنا مثلاً اللغة العربية نجدها لغة واحدةً ، لكن بيئاتها متعددة : هذا مصري ، وهذا سوداني ، وهذا سوري ، مغربي ، عراقي … الخ نشترك جميعاً في لغة واحدة ، لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد لا تُفهَم في البيئة الأخرى ، أما إذا تحدَّثنا جميعاً باللغة العربية لغة القرآن تفاهم الجميع بها . أما اختلاف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض ، هذا الانعزال يؤدي إلى وجود لغة جديدة ، فمثلاً الإنجليزية والفرنسية والألمانية و … الخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة اللاتينية ، فلما انعزلتْ البيئات أرادتْ كل منها أن يكون لها استقلالية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة بألفاظها وقواعدها . أو { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ … } [ الروم : 22 ] يعني : اختلاف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلات الكلام من أصوات مختلفة ، كما نرى الآن في آخر صيحات علم الأصوات أنْ يجدوا للصوت بصمة تختلف من شخص لآخر كبصمة الأصابع ، بل بصمة الصوت أوضح دلالة من بصمة اليد . ورأينا لذلك خزائن تُضْبط على بصمة صوت صاحبها ، فساعة يُصدر لها صوتاً تفتح له . ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوِّتات كثيرة منها : الجماد كحفيف الشجر وخرير الماء ، ومنها : الحيوان ، نقول : نقيق الضفادع وصهيل الخيل ، ونهيق الحمار ، وثُغَاء الشاة ، ورُغَاء الإبل … الخ لكن بالله أسألك : لو سمعت صوت حمار ينهق ، أتستطيع أن تقول هذا حمار فلان ؟ لا ، لأن كل الأصوات من كُلِّ الأجناس خلا الإنسان صوتها واحد لا يميزه شيء . أما في الإنسان ، فلكُلٍّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته واستعلائه أو استفاله ، أو في رقته أو في تضخيمه … الخ . فلماذا إذن تميَّز صوت الإنسان بهذه الميزة عن باقي الأصوات ؟ قالوا : لأن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أنْ تُضبط وأنْ تُحدَّد كما للإنسان ، وإلا كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن لا نعرف اسمه ، ولا نعرف شيئاً من أوصافه ؟ وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها لا تدلُّنا عليه دلالة قاطعة تُحدِّد المسئولية ويترتب عليها الجزاء . وقال سبحانه بعدها { وَأَلْوَانِكُمْ … } [ الروم : 22 ] فاختلاف الألسنة والألوان ليحدث هذا التميُّز بين الناس ، ولأن الإنسان هو المسئول خلق اللهُ فيه اختلافَ الألسنة والألوان لنستدل عليه بشكله : بطوله أو قِصَره أو ملابسه … إلخ . وفي ذلك ما يضبط سلوك الإنسان ويُقوِّمه حين يعلم أنه لن يفلت بفِعْلته ، ولا بُدَّ أنْ يدل عليه شيء من هذه المميزات . لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول ، لماذا ؟ لأنهم يريدون أنْ يُضيِّقوا دائرة البحث فيُخرجون منها مَنْ لا تنطبق عليه مواصفاتهم ، وما يزالون يُضيِّقون الدائرة حتى يصلوا للجاني . والحق - تبارك وتعالى - يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ … } [ الحجرات : 13 ] . فالتميُّز والتعارف أمر ضروري لاستقامة حركة الحياة ، ألاَ ترى الرجل يضع لكل ولد من أولاده اسماً يُميِّزه ، فإن عشق اسم محمد مثلاً ، وأحب أن يسمى كل أولاده محمداً لا بد أن يميزه ، فهذا محمد الكبير ، وهذا محمد الصغير ، وهذا الأوسط … الخ . إذن : لا بُدَّ أن يتميز الخَلْق لنستطيع تحديد المسئوليات . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ … } [ الروم : 22 ] أي : في الخَلْق على هذه الهيئة الحكيمة المحكمة { لآيَاتٍ … } [ الروم : 22 ] لنعتبر بها ، فالخالق سبحانه إنْ وحَّد الصفات فدليل على الحكمة ، وإن اختلفت فدليل على طلاقة القدرة . وانظر مثلاً إلى الصانع الذي يصنع أكواب الزجاج ، تراه يأخذ عجينة الزجاج ويصبُّها في قالب قتخرج جميعها على شكل واحد ، أما الخباز مثلاً فيأخذ العجينة ويجعلها رغيفاً فلا ترى رغيفاً مثل الآخر . أمَّا الخالق - عز وجل - فيخلق بحكمة وبطلاقة قدرة ، ويخلق سبحانه ما يشاء ، غير محكوم بقالب معين . وقوله { لِّلْعَالَمِينَ … } [ الروم : 22 ] أي : الذين يبحثون في الأشياء ، ولا يقفون عند ظواهرها ، إنما يتغلغلون في بطونها ، ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها . لذلك يلوم علينا ربنا عز وجل : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] فلا يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه الآيات ، إنما يتأملونها ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم ، كما نرى في المخترعات والاكتشافات الحديثة التي خدمتْ البشرية ، كالذي اخترع عصر البخار ، والذي اخترع العجلة ، والذي اكتشف الكهرباء والجاذبية والبنسلين … الخ ، إذن : نمر على آيات الله في الكون بيقظة ، وكل العلوم التجريبية نتيجة لهذه اليقظة . والعَالمون : جمع عالم ، وكانت تطلق في الماضي على مَنْ يعرف الحلال والحرام ، لكن هي أوسع من ذلك ، فالعالم : كل مَنْ يعلم قضية كونية أو شرعية ، ويُسمَّى هذا " عالم بالكونيات " وهذا عالم بالشرع ، وإنْ شئتَ فاقرأ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ … } [ فاطر : 27 - 28 ] . فذكر سبحانه النبات ، ثم الجماد ، ثم الناس ، ثم الحيوان . ثم يقول سبحانه : { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ … } [ فاطر : 28 ] على إطلاقها فلم يُحدِّد أي علماء : علماء النبات ، أو الحيوان ، أو الجمادات ، أو علماء الشرع ، إذن : العَالِم كل مَنْ يعلم حقيقة في الكون وجودية أو شرعية من عند الله . لكن ، لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة ؟ قالوا : لأنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها لذلك رأينا من آداب العلم في الإسلام ألاَّ يُدخِل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات ، وألاَّ يُدخل علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع . والذي أحدث الاضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلاً علماء الكونيات بأن الأرض تدور حول الشمس ، فيقوم من علماء الدين مَنْ يقول : هذا مخالف للدين - هكذا عن غير دراسة ، سبحان الله ، لماذا تُقحِم نفسك فيما لا تعلم ؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون الأرض كرة تدور أو لا تدور ؟ ما الحرام الذي زاد بدوران الأرض وما الحلال الذي انتقص ؟ كذلك الحال لما صعد الإنسان إلى القمر ، اعترض على ذلك بعض رجال الدين . كذلك نسمع مَنْ لا عِلْم له بالشرع يعترض على بعض مسائل الشرع يقول : هذه لا يقبلها العقل . إذن : آفة العلم أن يقحم العالم نفسه فيما لا يعلم ، ولو التزم كلٌّ بما يعلم لارتاح الجميع ، وتركت كل ساحة لأهلها . وعجيب أن يستشهد رجال الدين على عدم كروية الأرض بقوله تعالى : { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا … } [ الحجر : 19 ] ولو تأملوا معنى { مَدَدْنَاهَا … } [ الحجر : 19 ] لما اعترضوا لأن معنى مددناها يعني : كلما سِرْتُ في الأرض وجدتها ممتدة لا تنتهي حتى تعود إلى النقطة التي بدأت منها ، وهذا يعني أنها كرة لا نهاية لها ، ولو كانت مُسطحة أو مُثلثة مثلاً لكان لها نهاية . إذن : نقول للعلماء عموماً : لا تُدخلوا أنوفكم فيما لا علْم لكم به ، ودَعُوا المجال لأصحابه ، عملاً بقوله تعالى : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ … } [ البقرة : 60 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ … } .