Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 23-23)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كذلك من الآيات العجيبة الدالة على قدرة الله { مَنَامُكُم … } [ الروم : 23 ] فحتى الآن لم يكشف علماء وظائف الأعضاء والتشريح عن سِرِّ النوم ، ولم يعرفوا - رغم ما قاموا به من تجارب - ما هو النوم . لكن هو ظاهرة موجودة وغالبة لا يقاومها أحد مهما أُوتِي من القوة ، ومهما حاول السهر دون أنْ ينام ، لا بُدَّ أن يغلبه النوم فينام ، ولو على الحصى والقتاد ، ينام وهو واقف وهو يحمل شيئاً لا بُدَّ أنْ ينام على أية حالة . وفلسفة النوم ، لا أن نعرف كيف ننام ، إنما أن نعرف لماذا ننام ؟ قالوا : لأن الإنسان مُكوَّن من طاقات وأجهزة لكل منها مهمة ، فالعين للرؤية ، والأذن للسمع … الخ ، فساعة تُجهد أجهزة الجسم تصل بك إلى مرحلة ليستْ قادرة عندها على العمل ، فتحتاج أنت - بدون شعورك وبأمر غريزي - إلى أن يرتاح كأنها تقول لك كفى لم تَعُد صالحاً للعمل ولا للحركة فنم . ومن عجيب أمر النوم أنه لا يأتي بالاستدعاء لأنك قد تستدعي النوم بشتى الطرق فلا يطاوعك ولا تنام ، فإنْ جاءك هو غلبك على أيِّ حال كنتَ ، ورغم الضوضاء والأصوات المزعجة تنام . لذلك يقول الرجل العربي : النوم طيف إنْ طلبتَه أعْنَتك ، وإنْ طلبك أراحك . ولأهل المعرفة نظرة ومعنى كوني جميل في النوم ، يقولون في قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ … } [ الإسراء : 44 ] فكل ما في الوجود يُسبِّح حتى أبعاض الكافر وأعضاؤه مُسبحة ، إنما إرادته هي الكافرة ، وتظل هذه الأبعاض خاضعة لإرادة صاحبها إلى أنْ تنفكّ عن هذه الإرادة يوم القيامة ، فتشهد عليه بما كان منه ، وبما أجبرها عليه من معصية الله . وسبق أنْ مثَّلْنَا لذلك بقائد الكتيبة حين يطيعه جنوده ولو في الخطأ لأن طاعته واجبة إلى أنْ يعودوا إلى القائد الأعلى فيتظلمون عنده ، ويخبرونه بما كان من قائدهم . وذكرنا أن أحد قواد الحرب العالمية أراد أنْ يستخدم خدعة يتفوق بها على عدوه ، رغم أنها تخالف قانون الحرب عندهم ، فلما أفلحتْ خْطّته وانتصر على عدوه كرَّموه على اجتهاده ، لكن لم يَفُتهم أنْ يعاقبوه على مخالفته للقوانين العسكرية ، وإنْ كان عقاباً صُورياً لتظل للقانون مهابته . كذلك أبعاض الكافر تخضع له في الدنيا ، وتشهد عليه يوم القيامة : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . مع أن هذه الجوارح هي التي نطقتْ بكلمة الكفر ، وهي التي سرقتْ … الخ لأن الله أخضعها لإرادة صاحبها ، أما يوم القيامة فلا إرادةَ له على جوارحه : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ … } [ فصلت : 21 ] لذلك يُطمئننا الحق سبحانه بقوله : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . فإذا ما نام الكافر ارتاحتْ منه أبعاضه وجوارحه ، ارتاحتْ من مرادات الشر عنده لذلك يُحدِّثنا إخواننا الذين يحجُّون بيت الله يقولون : هناك النوم فيه بركة ، ويكفيني أقلّ وقت لأرتاح ، لماذا ؟ لأن فكرك في الحج مشغول بطاعة الله ، ووقتك كله للعبادة ، فجوارحك في راحة واطمئنان لم ترهقها المعصية لذلك يكفيها أقل وقت من النوم لترتاح . وفي ضوء هذا الفهم نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " تنام عيني ولا ينام قلبي " لأنه صلى الله عليه وسلم حياته كلها للطاعة ، فجوارحه مستريحة ، فيكفيه من النوم مجرد الإغفاءة . وفي العامية يقول أهل الريف : نوم الظالم عبادة ، لماذا ؟ لأنه مدة نومه لا يأمر جوارحه بشرٍّ ، ولا يُرغمها على معصية فتستريح منه أبعاضه ، ويستريح الناس والدنيا من شره ، وأيّ عبادة أعظم من هذه ؟ ونلحظ في هذه الآية { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ … } [ الروم : 23 ] فجعل الليل والنهار محلاً للنوم ، ولابتغاء الرزق ، وفي آية أخرى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] فجمعهما معاً ، ثم ذكر تفصيل ذلك على الترتيب { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] أي : في الليل { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] أي : في النهار . وهذا أسلوب يُعرف في اللغة باللفِّ والنشر ، وهو أنْ تذكر عدة أشياء محكوماً عليها ، ثم تذكر بعدها الحكمَ عليها جملة ، وتتركه لذكاء السامع لِيُرجِع كل حكم إلى المحكوم عليه المناسب . ومن ذلك قول الشاعر : @ قَلْبي وجَفْنِي واللسَان وخَالِقي رَاضٍ وبَاكٍ شَاكِر وغَفُور @@ فجمع المحكوم عليه في ناحية ، ثم الحكم في ناحية ، فجَمْع المحكوم عليه يسمى لَفّاً ، وجَمْع الحكم يُسمى نَشْراً . وهاتان الآيتان من الآيات التي وقف أمامها العلماء ، ولا نستطيع أنْ نخرج منهما بحكم إلا بالجمع بين الآيات ، لا أن نفهم كل آية على حدة ، فنلحظ هنا في الآية التي معنا { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ … } [ الروم : 23 ] أن الله تعالى جعل كلاً من الليل والنهار محلاً للنوم ، ومحلاً للسعي . وفي الآية الأخرى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] ثم قال { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] ولم يقل فيه ويجب هنا أنْ نتنبه ، فهذه آية كونية أن يكون الليل للنوم والسكون والراحة ، والنهار للعمل وللحركة ، فلا مانع أن نعمل بالليل أيضاً ، فبعض الأعمال لا تكون إلا بليل ، كالحراس ورجال الأمن والعسس والخبازين في المخابز وغيرهم ، وسكن هؤلاء يكون بالنهار ، وبهذا الفهم تتكامل الآيات في الموضوع الواحد . إذن : فقوله تعالى : { وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ … } [ الروم : 23 ] يعني : طلب الرزق والسَّعْي إليه يكون في النهار ويكون في الليل ، لكن جمهرة الناس يبتغونه بالنهار ويسكنون بالليل ، والقلة على عكس ذلك . فإنْ قلتَ : هذا عندنا حيث يتساوى الليل والنهار ، فما بالك بالبلاد التي يستمر ليلها مثلاً ثلاثة أشهر ، ونهارها كذلك ، نريد أن نفسر الآية على هذا الأساس ، هل يعملون ثلاثة أشهر وينامون ثلاثة أشهر ؟ أم يجعلون من أشهر الليل ليلاً ونهاراً ، ومن أشهر النهار أيضاً ليلاً ونهاراً ؟ لا مانع من ذلك لأن الإنسان لا يخلو من ليل للراحة ، ونهار للعمل أو العكس ، فكل من الليل والنهار ظرف للعمل أو للراحة . لذلك ، فالحق - تبارك وتعالى - يمتنُّ علينا بتعاقُب الليل والنهار ، فيقول سبحانه : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [ القصص : 71 ] وذيَّل الآية بأفلا تسمعون { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 72 ] وذيَّل هذه بأفلا تبصرون ، لماذا ؟ قالوا : لأن النهار محلُّ الرؤية والبصر ، أما الليل فلا بصرَ فيه ، فيناسبه السمع ، والأذن هي الوسيلة التي تؤدي مهمتها في الليل عندما لا تتوفر الرؤية . وفي موضع آخر : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] فالليل يخلُف النهار ، والنهار يخلُف الليل ، هذا في الزمن العادي الذي نعيشه ، أما في بدْء الخَلْق فأيهما كان أولاً ، ثم خلفه الآخر ؟ فإنْ قلت : إن الليل جاء أولاً ، فالنهار بعده خِلْفة له ، لكن الليل في هذه الحالة لا يكون خِلفة لشيء ، والنص السابق يوضح أن كلاً منهما خِلْفة للآخر ، إذن : فما حَلُّ هذا اللغز ؟ مفتاح هذه المسألة يكمن في كروية الأرض ، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر في بداية البعثة بهذه الحقيقة لما صدَّقوه ، كيف ونحن نرى مَنْ ينكر هذه الحقيقة حتى الآن . والحق - سبحانه وتعالى - لا يترك قضية كونية كهذه دون أنْ يمسَّها ولو بلُطْف وخِفة ، حتى إذا ارتقت العقول تنبهتْ إليها ، فلو أن الأرض مسطوحة وخلقَ الله تعالى الشمس في مواجهة الأرض لاستطعنا أنْ نقول : إن النهار جاء أولاً ، ثم عندما تغيب الشمس يأتي الليل ، أما إنْ كانت البداية خلْق الأرض غير مواجهة للشمس ، فالليل في هذه الحالة أولاً ، ثم يعقبه النهار ، هذا على اعتبار أن الأرض مسطوحة . وما دام أن الخالق - عز وجل - أخبر أن الليل والنهار كل منهما خِلْفة للآخر ، فلا بُدَّ أنه سبحانه خلق الأرض على هيئة بحيث يوجد الليل ويوجد النهار معاً ، فإذا ما دارت دورة الكون خلف كل منهما الآخر ، ولا يتأتّى ذلك إلا إذا كانتْ الأرض مُكوَّرة ، فما واجه الشمسَ منها صار نهاراً ، وما لم يواجه الشمس صار ليلاً . لذلك يقول سبحانه في آية أخرى : { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . فالحق سبحانه ينفي هنا أنْ يسبقَ الليلُ النهارَ ، فلماذا ؟ قالوا : يعتقدون أن الليلَ سابقُ النهار ، أَلاَ تراهم يلتمسون أول رمضان بليله لا بنهاره ؟ وما داموا يعتقدون أن الليل سابق النهار ، فالمقابل عندهم أن النهار لا يسبق الليل ، هذه قضية أقرَّها الحق سبحانه لذلك لم يعدل فيها شيئاً إنما نفى الأولى { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ … } [ يس : 40 ] . إذن : نفى ما كانوا يعتقدونه { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ … } [ يس : 40 ] وصدَّق على ما كانوا يعتقدونه من أن النهار لا يسبق الليل . فنشأ عن هذه المسألة : لا الليل سابق النهار ، ولا النهار سابق الليل ، وهذا لا يتأتّى إلا إذا وُجدوا في وقت واحد ، فما واجه الشمسَ كان نهاراً ، وما لم يواجه الشمس كان ليلاً . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً … } .