Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 24-24)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نلحظ في تذييل الآيات مرة يقول سبحانه : { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم : 21 ] ومرة { لِّلْعَالَمِينَ } [ الروم : 22 ] ومرة { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ الروم : 23 ] أو { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الروم : 24 ] فتختلف الأدوات الباحثة في الآيات . والبعض يظن أن العقل آلة يُعملها في كل شيء ، فالعقل هو الذي يُصدِّق أو لا يُصدِّق ، والحقيقة أنك تستعمل العقل في مسألة الدين مرة واحدة تُغنيك عن استعماله بعد ذلك ، فأنت تستعمل العقل في أنْ تؤمن أو لا تؤمن ، فإنْ هداك العقل إلى أن الكون له إله قادر حكيم خالق لا إله إلا هو ووثقتَ بهذه القضية ، فإنها لا تطرأ على تفكيرك مرة أخرى ، ولا يبحثها العقل بعد ذلك ، ثم إنك في القضايا الفرعية تسير فيها على وَفْق قضية الإيمان الأولى فلا تحتاج فيها للعقل . لذلك العقلاء يقولون : العقل كالمطية توصلك إلى حضرة السلطان ، لكن لا تدخل معك عليه ، وهكذا العقل أوصلك إلى الإيمان ثم انتهى دوره ، فإذا ما سمعتَ قال الله فأنت واثق من صِدْق القول دون أنْ تُعمل فيه العقل . وحين يقول سبحانه : يعقلون يتفكرون يعلمون ، حين يدعوك للتدبُّر والعِظَة إنما ينبه فيك أدوات المعارضة لتتأكد ، والعقل هنا مهمته النظر في البدائل وفي المقدمات والنتائج . كما لو ذهبتَ مثلاً لتاجر القماش فيعرض عليك بضاعته : فهذا صوف أصلي ، وهذا قطن خالص ، ولا يكتفي بذلك إنما يُريك جودة بضاعته ، فيأخذ فتلة من الصوف ، و فتلة من القطن ، ويشعل النار في كل منهما لترى بنفسك ، فالصوف لا ترعى فيه النار على خلاف القطن . إذن : هو الذي يُنبِّه فيك وسائل النقد ، ولا يفعل ذلك إلا وهو واثق من جودة بضاعته ، أما الآخر الذي لا يثق في جودة بضاعته فإنه يلجأ إلى ألاعيب وحيل يغري بها المشتري ليغُرّه . كذلك الخالق - عز وجل - يُنبِّهنا إلى البحث والتأمل في آياته فيقول : تفكَّروا تدبَّروا ، تعقَّلوا ، كونوا علماء واعين لما يدور حولكم ، وهذا دليل على أننا لو بحثنا هذه الآيات لتوصَّلْنا إلى مطلوبه سبحانه ، وهو الإيمان . والبرق : ظاهرة من ظواهر فصل الشتاء ، حيث نسمع صوتاً مُدوِّياً نسميه الرعد ، بعد أن نرى ضوءاً شديداً يلمع في الجو نسميه برق ، وهو عامل من عوامل كهربة الجو التي توصَّل إليها العلم الحديث ، لكن قبل ذلك كان الناس عندما يروْن البرق لا يفهمون منه إلا أحد أمرين : إما أنْ يأتي بصاعقة تحرقهم ، أو ينزل عليهم المطر ، فيخافون من الصاعقة ويرجون المطر . { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً … } [ الروم : 24 ] ليظل العبد دائماً مع ربه بين الخوف والرجاء . لكن أكُلّ الناس يرجون المطر ؟ هَبْ أنك مسافر أو مقيم في بادية ليس لك كِنٌّ تكِنُّ فيه ، ولا مأوى يأويك من المطر ، فهذا لا يرجو المطر ولا ينتظره ، لذلك من رحمته تعالى أن يغلب انفعال الطمع في الماء الذي به تحيا الأرض بالنبات . { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا … } [ الروم : 24 ] وكلمة السماء لها مدلولان : مدلولٌ غالب ، وهي السماوات السبع ، ومدلول لُغوي ، وهي كل ما علاَّك فأظلَّك ، وهذا هو المعنى المراد هنا { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً … } [ الروم : 24 ] لأن المطر إنما ينزل من السحاب ، فالسماء هنا تعني : كل ما علاك فأظلَّك . ولو تأملتَ الماء الذي ينزل من السماء لوجدتَّه من سحاب متراكم { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ … } [ النور : 43 ] . وسبق أنْ تحدَّثنا عن كيفية تكوُّن السُّحُب ، وأنها نتيجة لبخر الماء ، لذلك من حكمته تعالى أنْ جعل ثلاثة أرباع الأرض ماءً والربع يابسة ، ذلك لتتسع رقعة بَخْر الماء ، فكأن الثلاثة الأرباع جعلت لخدمة الرُّبْع ، وليكفي ماء المطر سكان اليابسة . وبيَّنا أهمية اتساع مسطح الماء في عملية البخر ، بأنك حين تترك مثلاً كوباً من الماء على المنضدة لمدة طويلة يظل كما هو ، ولو نَقُص منه الماء لكان قليلاً ، أمّا لو سكبتَ ماء الكوب على أرض الغرفة مثلاً فإنه يجفّ في عدة دقائق لماذا ؟ لأن مسطح الماء اتسع فكَثُر الماء المتبخِّر . ومثَّلْنا لتكوُّن السُّحُب بعملية التقطير التي نُجريها في الصيدليات لنحصل منها على الماء النقي المعقم ، وهذه تقوم على نظرية استقبال بخار الماء من الماء المغلي ، ثم تمريره على سطح بارد فيتكثف البخار مُكوِّناً الماء الصافي ، إذن : فأنت حينما تستقبل ماء المطر إنما تستقبل ماءً مقطراً في غاية الصفاء والنقاء ، دون أن تشعر أنت بهذه العملية ، ودون أن نُكلِّفك فيها شيئاً . وتأمل هذه الهندسة الكونية العجيبة التي ينشأ عنها المطر ، فحرارة الشمس على سطح الأرض تُبخِّر الماء بالحرارة ، وفي طبقات الجو العليا تنخفض الحرارة فيحدث تكثُّف للماء ويتكوَّن السحاب ، ومن العجيب أننا كلما ارتفعنا 30 متراً عن الأرض تقل الحرارة درجة ، مع أننا نقترب من الشمس ذلك لأن الشمس لا تُسخِّن الجو ، إنما تُسخِّن سطح الأرض ، وهو بدوره يعطي الحرارة للجو لذلك كلما بَعُدنا عن الأرض قلَّتْ درجة الحرارة . ومن حكمة الله أنْ جعل ماء الأرض الذي يتبخر منه الماء العَذْب جعله مالحاً لأن ملوحته تحفظه أنْ يأسن ، أو يعطن ، أو تتغير رائحته ، تحفظه أن تنمو به الطفيليات الضارة ، وليظلّ على صلاحه لأنه مخزن للماء العذب الذي يروي بعذوبته الأرض . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ … } .