Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 30-30)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، ما دام الأمر كذلك ، وما داموا قد اتبعوا أهواءهم وضلوا ، وأصروا على ضلالهم ، فدَعْك منهم ولا تتأثر بإعراضهم . كما قال له ربه : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] . وقال له : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] . فما عليك يا محمد إلا البلاغ ، واتركهم لي ، وإياك أن يؤثر فيك عنادهم ، أو يحزنك أنْ يأتمروا بك ، أو يكيدوا لك ، فقد سبق القول مني أنهم لن ينتصروا عليك ، بل ستنتصر عليهم . وهذه قضية قرآنية أقولها ، وتُسجَّل عليّ : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] . { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ … } [ الحج : 40 ] . { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ … } [ محمد : 7 ] . هذه قضية قرآنية مُسلَّم بها ومفروغ منها ، وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا ، فإنْ جاء واقعنا مخالفاً لهذه القضية ، فقد سبق أنْ أكدها واقع الأمم السابقة ، وسيحدث معك مثل ذلك لذلك يُطمئن الحق نبيه صلى الله عليه وسلم : { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] . فهنا { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً … } [ الروم : 30 ] أي : دعْكَ من هؤلاء الضالين ، وتفرَّغ لمهمتك في الدعوة إلى الله ، وإياك أنْ يشغلوك عن دعوتك . ومعنى إقامة الوجه للدين يعني : اجعل وجهْتك لربك وحده ، ولا تلتفت عنه يميناً ولا شمالاً ، وذكر الوجه خاصة وهو يعني الذات كلها لأن الوجه سِمة الإقبال . ومنه قوله سبحانه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] يعني : ذاته تعالى . ومعنى { حَنِيفاً … } [ الروم : 30 ] هذه الكلمة من الكلمات التي أثارت تذبذباً عند الذين يحاولون أنْ يستدركوا على كلام الله لأن معنى الحنيف : مائل الساقين فترى في رِجلْه انحناء للداخل ، يقال : في قدمه حنف أي ميل ، فالمعنى : فأقم وجهك للدين مائلاً ، نعم هكذا المعنى ، لكن مائلاً عن أيِّ شيء ؟ لا بُدَّ أن تفهم المعنى هنا ، حتى لا تتهم أسلوب القرآن ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليصلح مجتمعاً فاسداً منحرفاً يدين بالشرك والوثنية ، فالمعنى : مائلاً عن هذا الفساد ، ومائلاً عن هذا الشرك ، وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها ، ومعنى : مال عن الباطل . يعني : ذهب إلى الحق . و أَقِمْ هنا بمعنى : أقيموا ، لأن خطاب الرسول خطاب لأمته ، بدليل أنه سبحانه سيقول في الآية بعدها : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ … } [ الروم : 31 ] ولو كان الأمر له وحده لَقالَ منيباً إليه ، ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ … } [ الطلاق : 1 ] . فالخطاب للأمة كلها في شخص رسول الله لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ ، والمبلِّغ هو الذي يتلقى الأمر ، ويقتنع به أولاً ليستطيع أنْ يُبلِّغه لذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ … } [ الأحزاب : 21 ] . وقال { حَنِيفاً … } [ الروم : 30 ] لأن الرسل لا تأتي إلا على فساد شمل الناس جميعاً لأن الحق سبحانه كما خلق في الجسم مناعة مادية خلق فيه مناعة قيمية ، فالإنسان تُحدِّثه نفسه بشهوة وتغلبه عليها ، فيقع فيها ، لكن ساعة ينتهي منها يندم عليها ويُؤنِّبه ضميره ، فيبكي على ما كان منه ، وربما يكره مَنْ أعانه على المعصية . وهذه هي النفس اللوامة ، وهي علامة وجود الخير في الإنسان ، وهذه هي المناعة الذاتية التي تصدر من الذات . وفَرْق بين مَنْ تنزل عليه المعصية وتعترض طريقه ، ومَنْ يُرتِّب لها ويسعى إليها ، وهذا بيِّن في قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ … } [ النساء : 17 ] . فَرْق بين مَنْ يذهب إلى باريس لطلب العلم ، فتعترض طريقه إحدى الفتيات ، ومَنْ يذهب إلى باريس لأنه سمع عما فيها من إغراء ، فهذا وقع في المعصية رغماً عنه ، ودون ترتيب لها ، وهذا قصدها وسعى إليها ، الأول غالباً ما يُؤنِّب نفسه وتتحرك بداخله النفس اللوامة والمناعة الذاتية ، أما الآخر فقد ألِفَتْ نفسه المعصية واستشرتْ فيها ، فلا بُدَّ أن تكون له مناعة ، ليست من ذاته ، بل من المجتمع المحيط به ، على المجتمع أن يمنعه ، وأن يضرب على يديه . والمناعة في المجتمع لا تعني أن يكون مجتمعاً مثالياً لا يعرف المعصية ، بل تحدث منه المعاصي ، لكنها مُفرّقة على أهواء الناس ، فهذا يميل إلى السرقة ، وهذا يميل إلى النظر إلى المحرمات ، وهذا يحب كذا … الخ . إذن : ففي الناس مواطن قوة ، ومواطن ضعف ، وعلى القوي في شيء أن يمنع الضعيف فيه ، وأنْ يزجره ويُقوِّمه لذلك يقول تعالى : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] . فإذا عَمَّ الفساد وطَمَّ كما قال تعالى عن اليهود : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ … } [ المائدة : 79 ] وفقد المجتمع أيضاً مناعته . فلا بُدَّ أنْ تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة ، لينقذ هؤلاء . ثم يقول تعالى : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا … } [ الروم : 30 ] فنحن نرى البشر يتخذون الطعوم والأمصال للتحصين من الأمراض ، كذلك الحق سبحانه - وله المثل الأعلى - جعل هذا المصل التطعيمي في كل نفس بشرية ، حتى في التكوين المادي . ألا ترى قوله تعالى في تكوين الإنسان : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ … } [ الحج : 5 ] . فالمخلَّقة هي التي تكوّن الأعضاء ، وغير المُخلَّقة هي الرصيد المختزن في الجسم ، وبه يعوِّض أيَّ خلل في الأعضاء المخلَّقة ، فهي التي تمده بما يصلحه ، كذلك في القيم جاء دين الله فطرت الله التي فطر الناس عليها ، فإذا تدخلتْ الأهواء وحدثتْ الغفلة جاءتْ المناعة ، إما من ذات النفس ، وإما من المجتمع ، وإما برسول ومنهج جديد . وقد كرَّم الله أمة محمد بأن يكون رسولُها خاتَم الرسل ، فهذه بُشْرى لنا بأن الخير باقٍ فينا ، ولا يزال في يوم القيامة ، ولن يفسد مجتمع المسلمين أبداً بحيث يفقد كله هذه المناعة ، فإذا فسدتْ فيه طائفة وجدت أخرى تُقوِّمها ، وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم . " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " . وقال صلى الله عليه وسلم : " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " . وإلا لو عَمَّ الفساد هذه الأمة لاقتضى الأمر شيئاً آخر . وحين نقرأ الآية نجد أن كلمة { فِطْرَتَ … } [ الروم : 30 ] منصوبة ، ولم يتقدم عليها ما ينصبها ، فلماذا نُصِِبَتْ ؟ الأسلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب ، وللفعل المحذوف هنا ، لتبحث عنه بنفسك ، فكأنه قال : فأقم وجهك للدين حنيفاً والزم فطرت الله التي فطر الناس عليها . لذلك يسمي علماء النحو هذا الأسلوب أسلوب الإغراء ، وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثَّك على فِعْله ، كذلك الحق سبحانه يغري رسوله صلى الله عليه وسلم بأنْ يُقيم وجهه نحو الدين الخالص ، وأنْ يلزم فطرت الله ، وألا يلتفت إلى هؤلاء المفسدين ، أو المعوِّقين له . والفطرة : يعني الخلقة كما قال سبحانه : { فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ يوسف : 101 ] يعني : خالقهما ، والفطرة المرادة هنا قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . فالزم هذه الفطرة ، واعلم أنك مخلوق للعبادة . أو : أن فطرت الله تعني : الطبيعة التي أودعها الله في تكوينك منذ خلق اللهُ آدم ، وخلق منه ذريته ، وأشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ … } [ الأعراف : 172 ] . وسبق أنْ بيَّنا كيف أن في كل منا ذرة حية من أبينا آدم باقية في كل واحد منا ، فالإنسان لا ينشأ إلا من الميكروب الذكري الحي الذي يُخصِّب البويضة ، وحين تسلسل هذه العملية لا بُدَّ أن تصل بها إلى آدم عليه السلام . وهذه الذرة الباقية في كل منا هي التي شهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله علينا ، وإلا فالكفار في الجاهلية الذين جاء رسول الله لهدايتهم ، كيف اعترفوا لله تعالى بالخلق : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ الزمر : 38 ] . من أين عرفوا هذه الحقيقة ؟ نُقِلت إليهم من هذا العهد الأول ، فمنذ هذا العهد لم يجرؤ أحد من خَلْق الله أنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه ، فظلت هذه القضية سليمة في الأذهان مع ما حدث من فساد في معتقدات البشر . وتظل هذه القضية قائمة بالبقية الباقية من هذا العهد الأول ، حتى عند الكفار والملاحدة ، فحين تكتنفهم الأحداث وتضيق بهم أسبابهم ، تراهم يقولون وبلا شعور : يا رب ، لا يدْعون صنماً ولا شجراً ، ولا يذهبون إلى آلهتهم التي اصطنعوها ، فهم يعلمون أنها كذب في كذب ، ونصب في نصب . والآن لا يخدعون أنفسهم ولا يكذبون عليها ، الآن وفي وقت الشدة وحلول الكرب ليس إلا الله يلجئون إليه ، ليس إلا الحق والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها . وما دام الله قد فطرنا على هذه الفطرة ، فلا تبديل لما أراده سبحانه { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ … } [ الروم : 30 ] يعني : ما استطاع أحد أنْ يقول : أنا خلقتُ السماوات والأرض ، ولا أنْ يقول : أنا خلقتكم أو خلقتُ نفسي . { ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ … } [ الروم : 30 ] أي : الدين الحق { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الروم : 30 ] أي : لا يعلمون العلم على حقيقته والتي بيَّناها أنها الجزم بقضية مطابقة للواقع ، ويمكن إقامة الدليل عليها . ثم يقول الحق سبحانه : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ … } .