Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 31-31)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أناب : يعني رجع وقطع صلته بغير الحق { إِلَيْهِ … } [ الروم : 31 ] إلى الله ، فلا علاقة له بالخَلْق في مسألة العقائد ، فجعل كل علاقته بالله . ومنه يسمون الناب لأنه يقطع الأشياء ، ويقولون : ناب إلى الرشد ، وثاب إلى رشده ، كلها بمعنى : رجع ، وما دام هناك رجوع فهناك أصل يُرجع إليه ، وهو أصل الفطرة . وقوله تعالى { وَٱتَّقُوهُ … } [ الروم : 31 ] لأنه لا يجوز أنْ تنيب إلى الله ، وأن ترجع إليه ، وأن تجعله في بالك ثم تنصرف عن منهجه الذي شرَّعه لينظم حركة حياتك ، فالإنابة وحدها والإيمان بالله لا يكفيان بل لا بُدَّ من تطبيق المنهج بتقوى الله ، لذلك كثيراً ما يجمع القرآن بين الإيمان والعمل الصالح : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ الشعراء : 227 ] . لأن فائدة الإيمان وثمرته بعد أن تؤمن بالإله الحق ، وأن منهجه هو الصدق ، وفيه نفعك وسلامتك في حركة حياتك ، وأنه الذي يُوصِّلك إلى سعادة الدارين ، ولا معنى لهذا كله إلا بالعمل والتطبيق . { وَٱتَّقُوهُ … } [ الروم : 31 ] أي : اتقوا غضبه ، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية ، وهذه الوقاية تتحقق باتباع المنهج في افعل ولا تفعل . وسبق أن تكلمنا في معنى التقوى وقلنا : إنها تحمل معنيين يظن البعض أنهما متضاربان حين نقول : اتقوا الله . واتقوا النار . لكن المعنى واحد في النهاية لأن معنى اتق الله : اجعل بينك وبين عذاب الله وغضبه وقاية ، وهذا نفسه معنى : اتق النار . يعني : ابتعد عن أسبابها حتى لا تمسَّك . وقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ … } [ الروم : 31 ] أقيموا الصلاة أدُّوها على الوجه الأكمل ، وأدُّوها على ما أُحبُّ منكم في أدائها ، فساعة أناديك : الله أكبر يجب أن تقبل عليَّ ، وأنت حين تُلبِّي النداء لا تأتي لتعينني على شيء ، ولا أنتفع بك في شيء ، إنما تنتفع أنت بهذا اللقاء ، وتستمد مني العون والقوة ، وتأخذ شحنة إيمان ويقين من ربك . وقلنا : ما تصورك لآلة تُعرَض على صانعها كل يوم خمس مرات أيبقى بها عَطَب ؟ لذلك يُعلِّمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبنا أمر أن نهرع إلى الصلاة ، وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم إذا عزَّ عليه شيء ، أو ضاقت به الأسباب ، وإلا فما معنى الإيمان بالله إنْ لم تلجأ إليه . وما دام ربك غيباً ، فهو سبحانه يُصلحك بالغيب أيضاً ، ومن حيث لا تدري لذلك أمرنا ربنا بإقامة الصلاة ، وجعلها عماد الدين والركْن الذي لا يسقط عنك بحال ، فالزكاة والحج مثلاً يسقطان عن الفقير وعن غير القادر ، والصوم يسقط عن المريض أو المسافر ، في حين مرضه أو سفره ، ثم يقضيه بعد انقضاء سبب الإفطار . أما الصلاة فهي الركْن الدائم ، ليس مرة واحدة في العمر ، ولا مرة واحدة في العام ، إنما خمس مرات في اليوم والليلة ، فبها يكون إعلان الولاء لله تعالى إعلاناً دائماً ، وهذا إنْ دلَّ فإنما يدل على عظمة الإنسان ومكانته عند ربه وخالقه . وسبق أن قلنا : إنك إنْ أردتَ مقابلة أحد المسئولين أو أصحاب المنزلة كم تعاني ليُؤذَن لك ، ولا بُدَّ أن يُحدِّد لك الموعد والمكان ، بل وموضوع المقابلة وما ستقوله فيها ، ثم لصاحب المقابلة أنْ يُنهيها متى يشاء . إذن : لا تملك من عناصر هذا اللقاء شيئاً ؟ أما في لقائك بربك - عز وجل - فالأمر على خلاف ذلك ، فربُّك هو الذي يطلبك ويناديك لتُقبل عليه ، لا مرة واحدة بل خمس مرات كل يوم ، ويسمح لك أنْ تناجيه بما تحب ، وتطلب منه ما تريد . ولك أن تنهي أنت المقابلة بقولك : السلام عليكم ، فإنْ أحببتَ أن تطيل اللقاء ، أو أنْ تعتكف في بيت ربك فإنه سبحانه لا يملُّ حتى تملُّوا ، فهذه - إذن - ليست عبودية ، بل عزٌّ وسيادة . وما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى : @ حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ يحتَفِي بي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّ هُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ ولكِنْ أنَا أَلْقى متَى وأيْنَ أُحِبّ @@ ولأن للصلاة هذه المنزلة بين أركان الإسلام لم تُفرض بالوحي كباقي الأركان ، إنما فُرِضَتْ مباشرة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، حين استدعاه ربه للقائه في السماء في رحلة المعراج . وسبق أنْ مثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - برئيس العمل الذي يُلقي أوامره بالتليفون ، أو بتأشيرة على ورقة ، فإنْ تعرَّض لأمر هام استدعى الموظف المختص إلى مكتبه ، وأعطاه الأمر مباشرة لأهميته ، كذلك كانت الصلاة ، وكذلك فُرِضَتْ على سيدنا رسول الله بالتكليف المباشر . ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الروم : 31 ] وهنا وقفة : فكيف بعد الإنابة إلى الله والتقوى ، وبعد الأمر بإقامة الصلاة يقول { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الروم : 31 ] ؟ وأين الشرك ممَّنْ يُؤدِّي التعاليم على هذا الوجه ؟ قالوا : الشرك المنهيّ عنه هنا ليس الإشراك مع الله إلهاً آخر ، إنما أشركوا مع الله نية أخرى ، فالإشراك هنا بمعنى الرياء ، والنظر إلى الناس لا إلى الله . لذلك يقولون : العمل من أجل الناس رياء ، وترْك العمل من أجل الناس شرك ، فالذي يصلي أو يبني لله مسجداً للشهرة ، وليحمده الناس فهو مُراءٍ ، وهو خائب خاسر لأن الناس انتفعوا بعمله ولم يُحصِّل هو من عمله شيئاً . أما مَنْ يترك العمل خوفاً من الوقوع في الرياء ، فيمتنع عن الزكاة مثلاً ، خَوْفَ أن يُتَّهم بالرياء ، فهو والعياذ بالله مشرك ، لأن الناس ينتفعون بالعمل حتى وإنْ كان رياءً ، لكن إنِ امتنعتَ عن العمل فلا ينتفع الناس منك بشيء . فالمعنى : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الروم : 31 ] أي : الشرك الخفي وهو الرياء لذلك رأينا سيدنا رسول الله وهو الأسوة للأمة الإيمانية يدعو ربه ويقول " اللهم إنِّي أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " . فالعمل الإيماني ما كان لله خالصاً ، وعلى قَدْر الإخلاص يكون الجزاء ، فمن الناس مَنْ يفعل الصلاح فيوافق شيئاً في نفسه ، كأن يساعده على استقامة الحياة أو على التوفير في النفقات أو غير ذلك فيستمر عليه ، لا لله إنما لمصلحته هو . وفي هؤلاء يقول تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [ الحج : 11 ] . وكالتاجر الذي يلتزم الصدق في تجارته ، لا حباً في الصدق ذاته ، إنما طمعاً في الشهرة والصِّيت وكَسْب المزيد من الزبائن ، ومثل هؤلاء ينالون من الدنيا على قَدْر سعيهم لها ، ولا يحرمهم اللهُ ثمرةَ مجهوداتهم ، كما قال سبحانه : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . فما أشبه الناس في نياتهم من الأعمال بركْب يقصدون وجهة واحدة ، لكن لكل منهم غاية يسعى إليها ، فهذا يسعى للطعام أو أكلة شهية ، وهذا يسعى لامرأة جميلة ، وهذا يسعى لدرْس علم ينتفع به ، وآخر يسعى لرؤية مَنْ يحب ، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله : @ قَصَدْتُ بالركْبِ مَنْ أَهْوى وقُلْتُ لَهُم هَيّا كُلوا وخُذُوا ما حَظكم فِيهِ لكِنْ دَعُوني أُلاَقِي مَنْ أؤملُهُ عَيْني تَرَاهُ وَوُجْدَانِي يُنَاجِيهِ @@ كذلك الحق - تبارك وتعالى - يريد من عبده أنْ يقصده لذَاته ، لا خوفاً من ناره ، ولا طمعاً في جنته ، وفَرْق بين أن تنعم بنعمة الله ، وأن تنعم بالنظر إلى الله ، فأنت في الجنة تأكل ، لا عن جوع ولا عن حاجة ، إنما لمجرد التنعُّم . لذلك يقول سبحانه عن الشهداء : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] فتكفيهم هذه العندية ، وأنْ ينظروا إلى الله سبحانه وتعالى . لذلك تقول رابعة العدوية : اللهم إنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها ، وإنْ كنتَ تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فأدخِلني فيها ، لكني أعبدك لأنك أحقُّ أنْ تُعبدَ . ولا شكَّ أن القليل من الناس يخلصون النية لله ، وأن الغالبية يعملون العمل كما اتفق على أية نية ، لا تعنيهم هذه المسألة ، ولا يهتمون بها ، كما قال سبحانه : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] .