Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 36-36)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جميل أنْ يفرح الناس ، وأنْ يستبشروا برحمة الله ، لكن ما لهم إذا أصابتهم سيئة بما قدَّمتْ أيديهم يقنطون ؟ فمُجري الرحمة هو مُجري السيئة ، لكنهم فرحوا في الأولى لأنها نافعة في نظرهم ، وقنطوا في الأخرى لأنها غير نافعة في نظرهم ، وكان عليهم أنْ يعلموا أن هذه وتلك من الله ، وأن له سبحانه حكمةً في الرحمة وحكمةً في المصيبة أيضاً . إذن : أنتم نظرتم إلى شيء وغفلتم عن شيء ، نظرتُم إلى ما وُجِد من الرحمة وما وُجِد من المصيبة ، ولم تنظروا إلى مَنْ أوجد الرحمةَ ، ومَنْ أوجد المصيبة ، ولو ربطتم وجود الرحمة أو المصيبة بمَنْ فعلها لَعلمتُم أنه حكيم في هذه وفي تلك ، فآفة الناس أنْ يفصلوا بين الأقدار ومُقدِّرها . إذن : ينبغي ألاَّ تنظروا إلى ذات الواقع ، إنما إلى مَنْ أوقع هذا الواقع . فلو دخل عليك ولدك يبكي لأن شخصاً ضربه ، فأول شيء تبادر به : مَنْ فعل بك هذا ؟ فإنْ قال لك : فلان تقول : نعم إنه يكرهنا ويريد إيذاءنا … الخ فإنْ قال لك : عمي ضربني فإنك تقول : لا بُدَّ أنك فعلتَ شيئاً أغضبه ، أو أخطأتَ في شيء فعاقبك عليه . إذن : لم تنظر إلى الواقع في ذاته ، إنما ربطت بينه وبين مَنْ أوقعه ، فإنْ كان من العدو فلا بُدَّ أنه يريد شراً ، وإنْ كان من الحبيب فلا بُدَّ أنه يريد بك خيراً . وهكذا ينبغي أن نربط بين الموجود ومَنْ أوجده ، فإنْ كان الذي أوجد الواقع رَبٌّ فيجب أنْ تتأمل الحكمة ، ولن نتحدث عن الرحمة ، لأن النفع ظاهر فيها للجميع ، لكن تعال نسأل عن المصيبة التي تُحزِن الناس ، فيقنطوا وييأسوا بسببها . ونقول : لو نظرتَ إلى مَنْ أنزلها بك لارتاح بالك ، واطمأنتْ نفسك ، فالمصيبة تعني الشيء الذي يصيبك ، خيراً كان أم شراً ، أَلاَ ترى قوله تعالى : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ … } [ النساء : 79 ] . فالمصيبة لا تُذَمُّ في ذاتها ، إنما بالنتيجة منها ، وكلمة أصاب في الحسنة وفي السيئة تدلُّ على أن سهمها أُطلِق عليك ، وعمرها مقدار وصولها إليك ، فهي لا بُدَّ صائبتك ، لن تتخلَّف عنك أبداً ، ولن تُخطئك لأن الذي أطلقها إله ورب حكيم ، فإنْ كانت حسنة فسوف تأتيك فلا تُتعِب نفسك ، ولا تُزاحِم الناس عليها ، وإنْ كانت مصيبة فإياك أنْ تقول : أحتاط لها لأدفعها عن نفسي لأنه لا مهربَ لك منها . ثم لماذا تقنط وتيأس إنْ أصابتْك مصيبة ؟ لماذا لا تنتظر وتتأمل ، لعل لها حكمة ، ولعل من ورائها خيراً لا تعلمه الآن ، وربما كانت ضائقة سوف يكون لها فرج قريب . ألم تقرأ : { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ … } [ البقرة : 216 ] . أتذكرون حادث عمارة الموت وقد طردوا منها البواب وأسرته ، وجعلوا منها قضية في المحكمة ، وبعد أن انهارتْ العمارة ، وتبيَّن للبواب وأسرته أن ما ظنوه شراً ومصيبة كان هو عَيْن الخير . إذن : لا تقنط من ضُرٍّ أصابك ، واعلم أن الذي أجراه عليك ربك ، وأن له حكمة فانتظر حتى تتكشف لك ، ولا يقنط إلا مَنْ ليس له ربٌّ يلجأ إليه . ثم تعالَ نناقشك في المصيبة التي قَنَط من أجلها : ألكَ دَخْلٌ فيها ؟ أم ليس لك دَخْل ؟ إنْ كان لك دَخْل فيها كالتلميذ الذي أهمل دروسه فرسب في الامتحان ، فعليك أن تستقبل هذه المصيبة بالرِّضا ، فالرسوب يُعدِّل لك خطأك ، ويلفتك إلى ما كان منك من إهمال حتى تتدارك الأمر وتجتهد . فإنْ كانت المصيبة لا دَخْلَ لك فيها ، كالذي ذاكر واجتهد ، ومع ذلك لم يُوفّق لمرض ألمَّ به ليلة الامتحان ، أو لعارض عرض له ، نقول : إياك أنْ تفصل المصيبة عن مُجريها وفاعلها ، بل تأمَّل ما يعقُبها من الخير ، ولا تفصل المصيبة عن مُجريها عليك ولا تقنط . وابحث عن حكمة ربك من إنزال هذه المصيبة بك ، كالأم التي تقول لابنها : يا بُني أنت دائماً متفوق والناس تحسدك على تفوقك ، فلعل رسوبك يصرف عنك حسدهم ، ويُنجيك من أعينهم ، فيكفوا عنك . وحينما يأتي أبوه يقول له : يا بني هَوِّن عليك ، فلعلَّك إنْ نجحت هذا العام لم تحصل على المجموع الذي تريده ، وهذه فرصة لتتقوى وتحصل على مجموع أعلى . إذن : لن تُعدم من وراء المصيبة نفعاً ، لأن ربك قيوم ، لا يريد لك إلا الخير . لذلك حين تستقرىء الأحداث تجد أناساً فُضِحوا وأُخِذوا بما لم يفعلوا ، وذهبوا ضحية شاهد زور ، أو قاضٍ حكم عن هوى … إلخ لكن لأن ربك قيوم لا يغفل يُعوِّض هذا المظلوم ويقول له : لقد أصبح لك نقطة عندي في حسابك ، فأنت اتُّهمْتَ ظلماً ، فلك عندي إذا ارتكبتَ جريمة أَنْ أنجيك منها فلا تُعاقَب بها ، وأنت يا من عَمَّيْتَ على العدالة ، وشهدتَ زوراً ، أو : أخذت ما ليس لك ، أو أفلتَّ من العقاب فسوف أُوقِعك في جريمة لم تفعلها . إذن : القنوط عند المصيبة لا محلَّ له ، ولو ربطتَ المصيبة بمجريها لعلمتَ أنه حكيم ، ولا بُدَّ أنْ تكون له حكمة قد تغيب عنك الآن ، لكن إذا أدرتَ المسألة في نفسك ، فسوف تصل إلى هذه الحكمة . وحين ننظر إلى أسلوب الآية نجد فيه مفارقات عديدة ، ففي الكلام عن الرحمة قال { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا … } [ الروم : 36 ] فاستخدم أداة الشرط إذا . أما في المصيبة فقال { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [ الروم : 36 ] فاستخدم أداة الشرط إنْ ، فلماذا عدلَ عن رتابة الأسلوب من إذا إلى إن ؟ قالوا : حين تقارن بين النعَم وبين المصائب التي تنزل بالإنسان في دنياه تجد أن النعم كثيرة والمصائب قليلة ، فنعم الله متوالية عليك في كل وقت لا تُعدُّ ولا تحصى ، أمّا المصائب فربما تُعَدُّ على الأصابع . لذلك استخدم مع النعمَ إذا الدالة على التحقيق ، ومع المصيبة استخدم إنْ الدالة على الشك ، ومن ذلك قوله تعالى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [ النصر : 1 ] فاستعمل إذا لأنها تدلُّ على التحقيق وتُرجِّح حدوث النصر ، وقال سبحانه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ … } [ التوبة : 6 ] . كما نلحظ في أسلوب الآية أنها لم تذكر السبب في إذاقة الرحمة ، إنما ذكرتْ سبب المصيبة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ … } [ الروم : 36 ] ليدلَّ على عدله تعالى في إنزال المصيبة ، وتفضُّله في إذاقة الرحمة لأن الرحمة من الله والنعَم فضل من الله . لكن في المصيبة قال { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ … } [ الروم : 36 ] فذكر العِلّة حتى لا يظن أحد أن الله تعالى يُجري المصيبة على عبده ظلماً ، بل بما قدَّمَتْ يداه ، فالمسألة محكومة بالعدل الإلهي . وبين الفضل والعدل بوْن شاسع ، فلو جاءك خَصْمان لتحكم بينهما تقول : أحكم بينكما بالعدل ، أم بأفضل من العدل ؟ يقول : وهل هناك أفضل من العدل ؟ إذن : نريد العدل ، لكن تنبَّه لأن العدل يعطيك حقك ، والفضل يُتِركك حقك . فكأن الحق سبحانه يقول لنا : إياكم أنْ تظنوا أنكم ناجون بأعمالكم ، لا إنما بالتفضل عليكم : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] . يعني : مهما جمعتُم من الطاعات فلن تكفيكم ، ولا نجاةَ لكم إلا برحمة من الله وفضل . فالحق - تبارك وتعالى - يريد منا أن نعرف أن رحمة الله وسعتْ كل شيء ، وأنه مع ما أنعم به عليكم من نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصى لا يُعاقبكم إلا بشيء اقترفتموه يستحق العقاب ذلك لأنه رَبٌّ رحيم حكيم . وما دام الأمر كذلك فانظر إلى آثار رحمة ربك في الكون ، وتأمل هذه النعَم ، وقفْ عند دِقَّة الأسلوب في قوله سبحانه : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا … } [ إبراهيم : 34 ] . فالعَدُّ يقتضي الكثرة و { نِعْمَتَ … } [ إبراهيم : ] مفرد ، فكيف نعدُّ يا رب ؟ قالوا : نعم هي نعمة واحدة ، لكن في طياتها نِعَم فلو فتشتها لوجدتَ عناصر الخيرية فيها لا تُعَد ولا تُحصىَ . لذلك لما تعرضتْ الآيات لِعَدِّ نِعَم الله استخدمتْ إنْ الدالة على الشكِّ لأنها لا تقع تحت الحصر ولا العَدِّ ، لكن على فرض إنْ حاولت عدَّها فلن تُحصيها ، والآن ومع تقدُّم العلوم وتخصُّص كليات بكاملها لدراسة علم الإحصاء ، وخرجوا علينا بإحصاءات لأمور ولأشياء كثيرة في حياتنا ، لكن لم يتعرض أحد لأنْ يُحصي نعمة الله ، لماذا ؟ لأن الإقبال على الإحصاء لا يكون إلا مع مظنَّة أنْ تُعدَّ وتستوعب ما تحصيه ، فإنْ كان خارج نطاق استيعابك فلن تتعرض لإحصائه كما لم يتعرَّضْ أحد مثلاً لِعَدِّ الرمال في الصحراء لذلك يُشكككم الله في أنْ تعدُّوها { وَإِن تَعُدُّواْ … } [ إبراهيم : 34 ] فهو أمر مُستبعد ، ولن يكون .