Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 37-37)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يبسط : يُوسِّع ، ويقدِر : يعني يُضيِّق . يعني : ألم يروا هذه المسألة ، فواحد يُوسِّع الله عليه الرزق ، وآخر يُضيِّق عليه ، وربما صاحب السعة لم يتعب فيها ، إنما جاءته من ميراث أو خلافة ، وصاحب الضيق يكدّ ويتعب ، ومع ذلك فعيشته كفاف ، لذلك استقبل الفلاسفة هذه المسألة بما في ضمائرهم من إيمان أو إلحاد ، فهذا ابن الراوندي الملحد يقول : @ كَمْ عَالمٍ أعْيَتْ مَذَاهِبه وجَاهلٍ جَاهلٍ تَلْقَاهُ مرْزُوقا هَذَا الذِي تركَ الأوهامَ حَائرةً وَصيَّر العَالِم النَّحْرير زِنْدِيقا @@ فردَّ عليه آخر ممن امتلأت قلوبهم بالإيمان : @ كَمْ عَالمٍ قَدْ باتَ في عُسْرٍ وجَاهلٍ جاهلٍ قَدْ باتَ في يُسْر تحيَّر الناسُ في هَذا فقُلْتُ لهم هَذا الذي أوجبَ الإيمان بالقدرِ @@ فالعالم لا يسير بحركة ميكانيكية ثابتة ، إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه ، فانظر إلى البسط لمن بسط الله له ، والقبض لمن قبض الله عنه ، ولا تعزل الفعل عن فاعله سبحانه ، وتأمل أن الله تعالى واحد ، وأن عباده عنده سواء ، ومع ذلك يُوسِّع على أحدهم ويُضيِّق على الآخر . إذن : لا بُدَّ أن في هذه حكمة ، وفي تلك حكمة أخرى ، ولو تتبعتَ عواقب السعة هنا والتضييق هناك لتراءتْ لك الحكمة . ألا ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة ، ومع ذلك لم يستطع تربية أولاده لأن مظاهر الترف جرفتهم إلى الانحراف ، ففشلوا في حياتهم العملية ، وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على الكفاف يتفوق أولاده ، ويأخذون أعلى المراتب ؟ إذن : { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ … } [ الروم : 37 ] وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى . وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في الإلحاد ، إحداهما لواحد اسمه جيبل ، والأخرى لـ بختر أحدهما : ينكر أن يكون للعالم إله ، يقول : لو كان للعالم إله حكيم ما خلق الأعمى والأعرج والأعور … الخ فالحكمة في الخَلْق تقتضي المساواة ، فأخذ من الشذوذ في الخَلْق دليلاً على إلحاده . أما الآخر فقال : ليس للكون إله ، إنما يسير سَيْراً ميكانيكياً رتيباً ، ولو كان فيه إله لكان يخلق الخَلْق على صور مختلفة ، وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا ، فأخذ ثبات النظام دليلاً على إلحاده ليناقض مذهب سابقه . إذن : المسألة عندهم رغبة في الإلحاد بأيِّ شكل ، وعلى أية صورة ، واستخدام منهج مُعْوج يخدم القضية التي يسعون إلى إثباتها . ونقول في الرد على الأول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلاً على عدم وجود إله حكيم : الشذوذ الذي ذكرتَ شذوذ في الأفراد الذين يُعوض بعضهم عن بعض ، فواحد أعمى ، وآخر أعور يقابلهم ملايين المبصرين ، فوجود هذه النسبة الضئيلة لا تفسد القاعدة العامة في الخَلْق ، ولا تؤثر على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح . أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى الملأ الأعلى ، وفي الكون الأعلى من شمس وقمر ونجوم . . الخ فسيرى فيه نظاماً ثابتاً لا يتغير ، لأن الشذوذ في هذه المخلوقات يفسد الكون كله لذلك خلقه الله على هيئة الثبات وعدم الشذوذ . إذن : في النظام العام للكون نجد الثبات ، وفي الأفراد الذين يغني الواحد منهم عن الآخر نجد الشذوذ والاختلاف ، فالثبات يثبت حكمة القدرة ، والشذوذ يثبت طلاقة القدرة . فيا مَنْ تريد ثبات النظام دليلاً على الإيمان ، فالثبات موجود ، ويا مَنْ تريد شذوذ النظام دليلاً على الإيمان ، فالشذوذ موجود ، فما عليكما إلا أن تتفقا وأن ينفتح كل منكما على الآخر لتصلا إلى الصواب . ومسألة الرزق لها فلسفة في الإسلام ، فالحق سبحانه أخبرنا بأنه الرزَّاق ، فمرة يرزق بالأسباب ، ومرة يرزق بلا أسباب ، لكن إياك أنْ تغتر بالأسباب ، فقد تقدم الأسباب وتسعى ثم لا يأتيك منها رزق ، ويخيب سَعْيك كالفلاح الذي يأخذ بالأسباب حتى يقارب الزرع على الاستواء فتأتيه جائحة فتهلكه ، فاحذر أن تغتر بالأسباب ، وانظر إلى المسبِّب سبحانه . وقلنا : ينبغي أنْ تتحرى إلى الرزق أسبابه ولا تشغلنّ بعدها بالك بأمره ، فقد تكفل به خالقك الذي استدعاك للوجود ، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله : @ تَحَرَّ إلى الرزْقِ أَسْبابَهُ ولاَ تشغلنْ بعدَهَا بَالَكا فَإنَّك تجهلُ عنوانه ورِزْقُكَ يعرِفُ عُنْوانَكا @@ ثم يقول سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الروم : 37 ] قال لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ لأن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه في الإعطاء وفي المنع . ونلحظ على أسلوب الآية قوله تعالى في البسط : { لِمَن يَشَآءُ … } [ الروم : 37 ] وفي التضييق { وَيَقْدِرُ … } [ الروم : 37 ] ولم يقُلْ لمن يشاء لأن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه فقال { لِمَن يَشَآءُ … } [ الروم : 37 ] لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلاء الذين سيُبْسط لهم في الرزق ، أما في التقتير فلم يقُلْ لمنْ ليظل مبهماً يستبعده كلٌّ مِنّا عن نفسه ثم يقول رب العزة سبحانه : { فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ … } .