Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 40-40)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سبق أنْ قلنا : إن قضية الخَلْق مُسلَّم بها لأنها قضية لم يدَّعها أحد لنفسه مع كثرة المتبجحين بالكفر والإلحاد لذلك لما ادَّعاها النمروذ الذي حاجَّ إبراهيم في ربه فقال : أنا أحيي وأميت ، فعلم إبراهيم عليه السلام أنه يريد اللجاج والسفسطة التي لا طائل منها ، وإلا فكيف يكون الأمر بقتل واحد إماتة ، والأمر بترك الآخر والعفو عنه إحياء ؟ ثم ما بال الذين خُلِقوا قبلك وميلادهم قبل ميلادك ؟ إذن : أنت لم تخلق ولم تُحي أحداً ، وسبق أنْ بيّنا الفرق بين القتل والموت مع أنهما يشتركان في إنهاء الحياة وإزهاق الروح ، لكن الموت يكون بإزهاق الروح أولاً ، يتبعه نَقْض البنية وتحطم الجسم . أما القتل فينقض البنية أولاً نَقْضاً يترتب عليه إزهاق الروح فالروح لا تقيم إلا في بنية سليمة ، ومثَّلنا لذلك بلمبة الكهرباء حين تحرق فينطفىء نورها ، فهل يعني ذلك أن التيار انقطع عنها ؟ لا بل هو موجود لكنه يحتاج لبنية سليمة بدليل أننا إذا استبدلنا اللمبة تضيء . والحق - سبحانه وتعالى - يبين لنا هذا الفرق في قوله سبحانه : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ … } [ آل عمران : 144 ] إذن : فالنمروذ لا يحيي ، بل يُبقِي على الحياة ، ولا يُميت بل يقتل ويُزهِق الروح . وكان بمقدور إبراهيم عليه السلام أنْ يردَّ عليه هذه الحجة ، وأنْ يكشف تزييفه ، لكنه أراد أن يأخذه إلى ميدان آخر لا يستطيع التلفيق فيه ولا التمحُّك ، فقال له : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ … } [ البقرة : 258 ] . كذلك مسألة الرزق فهي مُسلَّمة لله لم يدَّعِها أحد : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ … } [ الروم : 40 ] . بدليل أن الله تعالى جعل بعض المناطق جدباء ، يجوع فيها القادر والعاجز ، ويجوع فيها ذو المال وغير ذو المال ، ولو كان هناك رازق غير الله فَلْيْحُي هذه المناطق الجدباء . وقوله تعالى : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ … } [ الروم : 40 ] ولم يقل : يقتلكم { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُمْ مِّن شَيْءٍ … } [ الروم : 40 ] أي : اسألهم هذا السؤال ، ودَعْهم يجيبون هم عليه : أتستطيع الأصنام التي تشركونها مع الله أنْ تفعل شيئاً من الخَلْق أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة ؟ أفي قدرتها شيء من ذلك وأنتم الذين تصنعونها وتنحتون حجارتها بأيديكم ، وتُصوِّرونها كما تشاؤون ، فإذا هبَّتْ عاصفة أطاحت بها وربما كسرت ذراع أحد الأصنام فتجتمعون لإقامتها وإصلاحها ؟ فأين عقولكم ؟ وما هذه الخيبة التي أصابتكم ؟ لذلك يقول سبحانه عنهم : { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] . ويقول سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ … } [ الحج : 73 ] بل وأكثر من ذلك { وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] . بالله ، أيستطيع أحد أنْ يستردَّ ما أخذتْه منه الذبابة ؟ ونلحظ في الآية تكرار مِنْ وهي للتبعيض : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُمْ مِّن شَيْءٍ … } [ الروم : 40 ] والمعنى : لا يستطيع أحد من شركائكم أن يفعل شيئاً ولو هيِّناً من الخلق ، أو الرزق ، أو الإحياء ، أو الإماتة . لذلك يجب أنْ تُعلِّقوا على هذه القضايا من الله بقول واحد { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الروم : 40 ] لا تعليق إلا هذا . لذلك لما تكلم سيدنا إبراهيم عن الأصنام قال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ … } [ الشعراء : 77 ] أي : أنتم وما تعبدون من دون الله لأنهم كانوا يشركون آلهتهم مع الله ، فالله سبحانه داخل في هذه الشركة لذلك استثناه ربه { إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ * ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 77 - 78 ] . ونلحظ هنا في قوله { ٱلَّذِي خَلَقَنِي … } [ الشعراء : 78 ] أنه لم يؤكدها بشيء ، ولم يذكر قبل الخَلْق الضمير هو لأن مسألة الخَلْق كما قُلْنا لم يدَّعها أحد ، أمّا في الهداية وهي مجال ادعاء ، فقال فهو أي : الحق سبحانه يقصر الهداية على الله { فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] . وفي هذا إشارة إلى أن القانون الذي يُنظم حياتي والمنهج الذي يهديني قانون ربي لا آخذه من أحد سواه ، وكثيراً ما نرى مَنْ يدَّعي الهداية ويقول : إنني وضعتُ قانوناً يُسعِد حياة الناس ، ويفعل كذا وكذا ، سمعنا هذه النغمة مرة من الرأسمالية ، ومرة من الاشتراكية ، ومن الشيوعية … الخ . إذن : هذا مجال ادعاء واسع ، فقيَّده إبراهيم - عليه السلام - وقصره على الله ، حيث لا منهجَ إلا منهجُ الله ، ولا قانونَ يحكمنا إلا قانون ربنا ، كما نقول في العامية مفيش إلا هو . كذلك في مسألة الإطعام قال : { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي … } [ الشعراء : 79 ] فاستخدم القصر هنا بذكر الاسم الموصول الذي ثم الضمير المفرد الغائب هو ليؤكد أن الذي يطعمه إنما هو الله لأن الإنسان قد يظن أن أباه هو الذي يطعمه ، أو أن أمه هي التي تُطعمه لأنها تُعِد له طعامه ، فهما السببان الظاهران في هذه المسألة ، فاحتاج الأمر إلى أكثر من مؤكد . ثم يقول عليه السلام : { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 81 ] هكذا دون توكيد لأن الموت والحياة مسألتان مُسلَّمتان لله مفروغ منهما ، وكذلك : { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } [ الشعراء : 82 ] وهذه أيضاً لا تكون إلا لله تعالى . إذن : ما كان للغير فيه شبهة عمل يؤكدها ويخصُّها لله تعالى ، أما الأخرى التي لا دخْلَ لغير الله فيها فيسوقها مُطْلقة دون اختصاص . فالتعليق في هذا الأمر العجيب لا يكون إلا بقولنا : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الروم : 40 ] أي : تنزيهاً له عن الشركة ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الله تعالى قال : لا إله إلا أنا ، ولم يَقُمْ لهذه القضية منازع ، ولم يدَّعها أحد لنفسه . إذن : فهي مُسلَّمٌ بها ، وإلا فإنْ كان هناك إله آخر فأين هو ؟ ولماذا لم يدافع عن حقه في الألوهية ؟ إن كان لا يدري فهو غافل ، وإنْ كان يدري ولم يعارض فهو جبان ، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلهاً . لذلك ربنا حكمها بقضية واحدة ، فقال : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ … } .