Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 44-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ما دامت القيامة أمراً لا مردَّ له من الله ، فلننتبه للعواقب ، ولنحسب لها حساباً ، فمَنْ كفر فعليه كفره ، عليه لا له ، وهذه قضية تقتضي أن نقول في مقابلها : ومَنْ آمن فله إيمانه . بعد أن بيَّن الدلائل الواضحة على واحديته في الكون ، وأحديته في ذاته سبحانه ، وبيَّن الأدلة الكونية بكُلِّ صورها برهاناً وحجةً ، وضرب أمثالاً وتفصيلاً بعد ذلك قال : سأقول لكم أنكم أصبحتم مختارين أي : خلقتُ فيكم الاختيار في التكليف حتى لا أقهر أحداً على الإيمان بي . وخَلْق الاختيار في التكليف بعد القهر في غير التكليف يدلُّ على أن الله تعالى لا يريد من عباده قوالب تأتمر بأمر القهر ، ولكنه يريد أنْ يجذب الناس بمحبوبيتهم للواحد الأحد . وإلا فكان من الممكن أن يخلقهم جميعاً مهتدين ، وأنْ يخلقهم على هيئة لا تتمكّن من الكفر ، وتسير إلى الطاعة مرغمة ، كما قال سبحانه حكاية عن السماء والأرض : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وذلك يُفسِّر لنا أمانة خَلْق الاختيار في الناس . والحق - سبحانه وتعالى - حينما تكلم عن هذه المسألة بوضوح قال : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا … } [ الأحزاب : 72 ] والإباء هنا ليس إباءَ تكبُّر على مراد الله ، إنما وضعوا أنفسهم في الموضع الطبيعي ، فقالوا : لا لحمل الأمانة لأننا لا نأمن أنفسنا ولا نضمنها عند الأداء . والإنسان كذلك ابن أغيار ، فقد يحمل الأمانة ، ويضمن أداءها في وقت التحمل ، لكنه لا يضمن نفسه عند الأداء ، وسبق أن مثَّلْنا لذلك بمَنْ يقبل الأمانة ، ويرحب بها عند التحمل ، ثم تطرأ عليه من أحداث الحياة ما يضطره لأنْ يمدَّ يده إلى هذه الأمانة وإنْ كان في نيته الأداء ، لكن يأتي وقته فلا يستطيع ، وآخر يُقدِّر هذه المسئولية ويرفض تحمل الأمانة ، وهذا هو العاقل الذي يُقدِّر الظروف وتغيّر الأحوال . ومعلوم أن الأمانة لا تُوثَّق ، فإنْ كتبتَ وشهد عليها فإنها لم تَعُدْ أمانة ، فالأمانة إذن مردُّها لاختيار المؤتمن إنْ شاء أقرَّ بها ، وإنْ شاء أنكرها . فالحق سبحانه قال حكاية عن السماوات والأرض والجبال { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا … } [ الأحزاب : 72 ] لأنهم يُقدِّرون مسئوليتها ، أما الإنسان فقد تعرَّض لحملها وقال : عندي عقل أفكر به ، وأختار بين البدائل ، وسوف أؤدي ، فضمن وقت التحمل ، لكنهن لا يضمن وقت الأداء ، فظلم نفسه وجهل حقائق الأمور . { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] ظلوماً لنفسه ، جهولاً بما يمكن أنْ يطرأ عليه من الأغيار . وما دام الإنسان ابن أغيار ، فإنه لا يثبت على حال لذلك قلنا : إذا صعد الإنسان الجبل إلى قمته وهو ابن أغيار فليس أمامه إلا أنْ ينزل ، والعقلاء يخافون أنْ تتم لهم النعمة لأنه ليس بعد التمام إلا النقصان ، كما قال الشاعر : @ إِذَا تَمَّ شيء بَدا نَقْصُه ترقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيلَ تَمّ @@ فإذا قلت : لماذا خلق الله الاختيار في الإنسان ولم يخلقه في الأجناس التي تخدمه من جماد ونبات وحيوان ؟ نقول : كُنْ دقيقاً ، وافهم أنها أيضاً خُيّرت بقوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا … } [ الأحزاب : 72 ] . إذن : هذه الأجناس أيضاً خُيِّرت ، لكنها اختارت اختياراً واحداً يكفيها كل الاختيارات ، فقالت : نريد يا رب أنْ نكون مقهورين لكل ما تريد . ولما كنا مختارين أعطانا الله تعالى هذه القضية : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ … } [ الروم : 44 ] وكلمة عَلَيْه تفيد الدَّيْن والوِزْر ، و له تفيد النفع ، فإذا جئنا بالمقابل بقول : ومَنْ آمن فله إيمانه ، كما في : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] . لكن القرآن لم يَأْت بهذا المقابل ، إنما عَدَل إلى مسألة أخرى : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] فلماذا ؟ قالوا : لأن فائدة الإيمان أن تعتقد بوجود إله قادر واحد هو الله فتؤمن به ، فإذا ما أمرك تطيع ، فعِلَّة الإيمان التكليف لذلك حين تبحث أيَّ تكليف إياك أنْ تنظر إلى عِلَّته فتقول : كلفني بكذا لكذا ، فعِلَّة التكليف وحكمته عنده تعالى . فإذا قلنا مثلاً : حكمة الصيام أنْ يشعر الغنيُّ ويذوق ألم الجوع فيعطف على الفقير ، فهل يعني هذا أن الفقير المعدَم لا يصوم ؟ إذن : ليست هذه حكمة الصيام ، والأصوب أنْ تقول : أصوم لأن الله أراد مني أن أصوم ، وحكمة الصيام عنده هو . ومثَّلنا لذلك ولله تعالى المثل الأعلى : أنت حين تشكو مرضاً أو ألماً تسأل عن الطبيب الماهر والمتخصص حتى تنتهي إليه ، وعندها تنتهي مهمة عقلك ، فتضع نفسك بين يديه يفحصك ويُشخِّص مرضك ، ويكتب لك الدواء ، فلا تعارضه في شيء ، ولا تسأله لماذا كتب هذا الدواء . فإذا سألك زائر مثلاً : لماذا تأخذ هذا الدواء ؟ لا تقول : لأن من خصائصه كذا ، ومن تفاعلاته كذا ، إنما تقول : لأن الطبيب وصفه لي ، مع أن الطبيب بشر قد يخطىء ، وقد يكتب لك دواءً ، أو يعطيك حقنة ترديك ، ومع ذلك تُسلِّم له بما يراه مناسباً لك ، فإذا كنت لا تناقش الطبيب وهو خطأ ، فكيف تناقش الله فيما فرضه عليك وتطلب علَّة لكل شيء ؟ ولا يناقش في عِلَل الأشياء إلا المساوى ، فلا يناقش الطبيبَ إلى طبيبٌ مثله ، كذلك يجب أنْ نُسلِّم لله تعالى بعلل الأشياء وحكمتها إلى أنْ يوجد مُسَاوٍ له سبحانه يمكن أنْ يناقشه . والحق سبحانه يُبيِّن لنا عِلَّة الإيمان - لا الإيمان في ذاته - إنما ما يترتب عليه من طاعة أوامر هذا الإله ، وعلى طاعة هذه الأوامر الأوامر يترتب صلاح الكون ، بدليل أن الله يطلب من المؤمنين أنْ ينشروا الدعوة ، وأن يُبلِّغوها ، وأن يحاربوا مَنْ يعارضها ويمنعهم من نشرها . فما شُهِر السيف في الإسلام إلا لحماية بلاغ الدعوة ، فإنْ تركوك وشأنك فدَعْهم ، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام ظل بها أصحاب ديانات أخرى على دياناتهم ، وهذا دليل على أن الإسلام لم يُرغِم أحداً على اعتناقه . لكن ما دام الإسلام قد فتح البلاد فلا بُدَّ أنْ تكون له الغَلَبة ، وأنْ يسير الجميع معه في ظِلِّ منهج الله ، فيكون للكافرِ ولغير ذي الدين ما لصاحب الدين . فكأن الحق سبحانه يريد لقوانينه أنْ تحكم آمنت به أو لم تؤمن لأن صلاح الكون لا يكون إلا بهذه القوانين . إذن : فأنت حُرٌّ ، تؤمن أو لا تؤمن ، لكن مطلوب ممَّنْ آمن أنْ يحمي الدعوة في البلاغ ، ثم يترك الناس أحراراً ، مَنْ آمن فبها ونعمت ، ومَنْ أبى نقول له : لك ما لنا ، وعليك ما علينا . إذن : فأصل الإيمان لصلاح الخلافة ، ولا يهتم الله سبحانه بأنك تؤمن أو لا تؤمن ، ما دام منهج الخلافة قائماً ، وهذا المنهج يعود نفعه على المؤمن وعلى الكافر ، فإذا كان الإيمان يُربِّي الإنسان على ألاّ يفعل إلا خيراً وصلاحاً ، فالكافر لا بُدَّ وأن يستفيد من هذا الصلاح . وهل قال الشرع للمؤمن : لا تسرق من المؤمن ؟ لا إنما أيضاً لا تسرق من الكافر … الخ ، فالكل أمام منهج الله سواء . وفي القرآن آية ينبغي أنْ نتنبه لها ، ونعرف غير المؤمنين بها ، ليعلموا أن الإيمان إنما يحمي مصلحة الناس جميعاً ، إنها قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ … } [ النساء : 105 - 106 ] يعني : إنْ خطر لك أن تكون لصالح الخائن ، استغفر الله من هذا { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } [ النساء : 107 ] ولو كان مؤمناً به . ولهذه الآية قصة مشهورة هي قصة اليهودي زيد بن السمين ، وقد جاءه طعمة بن أبيريق - وكان مؤمناً - وقال : يا زيد خُذْ هذه الدرع أمانة عندك فقبله زيد ، وإذا بالدرع مسروق قد سرقه ابن أبيريق من قتادة بن النعمان ووضعه في جوال من الدقيق ، فكان على الدرع آثار الدقيق ، فلما بحث ابن النعمان عن دِرْعه دَلّه أثر الدقيق على بيت ابن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته . ثم جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم في أمره ، فقصَّ عليه ما كان من أمر ابن أبيريق ، وأنه وضعه عنده على سبيل الأمانة . وعندها عَزَّ على المسلمين أن يسرق واحد منهم ، وأن يأخذها اليهود ذِلّة في حَقِّهم ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدير الأمر في رأسه ، فإنْ حكم على المسلم أخذها اليهود حجة ، وإنْ حكم للمسلم كانت عيباً وسُبَّة في الدين ، فأسعفه ربه بهذه الآية : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] فقال : بين الناس لا بين المؤمنين فحسب . ومعنى { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] البعض يقولون : لا تخاصم الخائن حتى لا يضطهدك ، إنما المراد : لا تكُنْ خصيماً لصالحه . { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ … } [ النساء : 106 ] إنْ طرأتْ عليك مسألة الإسلام وصورته بين غير المسلمين لأن الله في مبدأ الإصلاح لا يحب كل خوَّان أثيم . ولو أن غير المسلمين تنبهوا إلى هذه القضية ، وعلموا أن الله تعالى عدل الحكم للمؤمنين ، وأعلنه لرسول الله ، وقرر أن الحق هو الحق ، والكل أمامه سواء المؤمن وغير المؤمن لعلموا أن الإسلام هو الدين الحق ولأقبلوا عليه ، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من عادى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة " . لأنك إنْ عاديتَه واضطهدته أو هددتْه في حياته ، أو في عِرْضه ، أو في ماله لصارتْ حجة له في ألاَّ يؤمن ، وله أنْ يقول : إذا كان هذا هو حال المؤمنين ، فما الميزة في الإسلام حتى أعتنقه ؟ بل من مصلحتي أنْ أبتعد عنه ، لكن إنْ عاملتَه بالحق وبالخير والحسنى لعطفته إلى الإسلام ، وجعلته يُؤنِّب نفسه ألاَّ يكون مسلماً . لذلك سبق أنْ قُلْنا : إن سيدنا إبراهيم - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - جاءه رجل فاشتمَّ منه أنه غير مسلم ، فلما سأله قال : أنا مجوسي فردَّ الباب في وجهه ، فانصرف الرجل ، وإذا بإبراهيم - عليه السلام - يتلقى الوحي من الله : يا إبراهيم لم تقبل أنْ تُضيِّفه لأنه على غير دينك ، وأنا قبلته طوال عمره في مُلْكي وهو كافر بي . فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به واسترضاه ، فقال الرجل : وماذا جرى لقد طردتني ونهرتني منذ قليل ؟ فقال : إن ربي عاتبني في أمرك ، فقال الرجل : إنَّ رباً يعاتب أنبياءه بشأن أعدائه لحقيق أن يُعبد . لا إله إلا الله ، إبراهيم رسول الله . إذن : نفهم من هذا أن العمل الصالح هو مطلوب الإيمان ، وإذا آمنتَ بإله لتأخذ الحكم منه وأنت مطمئن أنه إله حق ، فلا يهم بعد ذلك أنْ تؤمن أو لا تؤمن المهم قاعدة الصلاح في الكون وفي حركة الحياة لذلك لم يقل ومَنْ آمن فله إيمانه ، كأن المراد بالإيمان العمل { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] لأنه لا يعمل صالحاً إلا إذا كان مؤمناً . ونلحظ هنا أن الآية تتحدث عن صيغة المفرد : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً … } [ الروم : 44 ] ثم يتحول إلى صيغة الجمع { فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] ولم يقُلْ : فهو يمهد لنفسه ، فلماذا ؟ قالوا : لأن الذي يعمل الصالح لا يعمله لذاته ، إنما له ولذريته من بعده ، كما جاء في قوله سبحانه : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ … } [ الطور : 21 ] إذن : ساعةَ تكلم عن الإيمان جاء بالمفرد ، وساعةَ تكلم عن الجزاء جاء بصيغة الجمع . كما أن العمل الصالح يأتي من ذات الإنسان ، ويستقبله هو من غيره ، وكلمة مَنْ هنا تصلح للمفرد وللمثنى وللجمع بنوعية ، وتحل محلَّ جميع الأسماء الموصولة تقول : من جاءك فأكرمه ، ومَنْ جاءتك فأكرمها ، ومَنْ جاءاك فأكرمهما ، ومَنْ جاءوك فأكرمهم … الخ . كذلك في هذه الآية استعمل مَنْ للدلالة على المفرد ، وعلى الجمع . وتأمَّل قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ … } [ النور : 61 ] وهل يُسلِّم الإنسان على نفسه ؟ قالوا : نعم لأن المؤمنين شيء واحد ، إذا سلَّمْتَ على أحدهم فكأنك سلَّمت على الجميع ، وأيضاً إذا قُلْت لصاحبك السلام عليكم يردُّ عليك : وعليكم السلام ، فكأنك سلَّمْتَ على نفسك . ومعنى { يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] مأخوذة من المهْد ، وهو فراش الطفل ، والطفل لا يُمَهده ولا يُسوّيه ويُهيِّئه ، ولا بُدَّ له من صدر حنون يُسوِّي له مهده ، ويفرشه ويُعده ، فكأن الذي يعمل الصالح في الدنيا يُمهِّد لنفسه فراشاً في الآخرة ، كما يحكي أبو منصور بن حازم عن أبي عبد الله بن الحسين يقول : العمل الصالح يسبق صاحبه إلى الجنة ليمهد له فراشه ، كما يمهد الخادم لأحدكم فراشه . لذلك سبق أن قلنا : إن الذين يؤثرون على أنفسهم يؤثرون من الفانية ليُدَّخر لهم في الباقية ، و " سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أُهديت له الشاة ، وعاد ليسأل أم المؤمنين عائشة عنها فقال لها : " ماذا صنعت بالشاة ؟ " فقالت : ذهبتْ كلُّها إلا كتفها ، يعني : تصدَّقَتْ بها إلا كتفها ، فقال سيدنا رسول الله : " بل ، بقيت كلها إلا كتفها " . وفي حديث آخر : " يا بْن آدم ، تقول : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما لبسْتَ فأبليتَ ، أو أكلتَ فأفنيتَ ، أو تصدَّقْتَ فأبقيت " . والإمام علي رضي الله عنه يسأله أحدهم : أنا من أهل الدنيا ، أم من أهل الآخرة ؟ فقال الإمام : الجواب عندك أنت ، فقال : كيف ؟ قال : هَبْ أنه دخل عليك شخص بهدية ، وآخر يطلب منك صدقة فلأيِّهما تبشُّ ؟ إنْ كنت تبش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا وأن كنت تبشّ لطالب الصدقة فأنت من أهل الآخرة . ذلك لأن الإنسان يحب ما يعمر له محبوبه ، فإنْ كان من أهل الدنيا يحب ما يعمرها له ، وإنْ كان من أهل الآخرة يحب مَنْ يعمر له آخرته . ثم يعلل الحق سبحانه لماذا يمهدون لأنفسهم : { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .