Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 46-46)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه نِعَم خمس من نِعَم الله على عباده . فإرسال الرياح وحدها نعمة ، وتبشيرها بالمطر نعمة ، وإجراء الفُلْك نعمة ، والابتغاء من فضل الله نعمة ، ثم الشُّكْر على هذا كله نعمة أخرى . والآيات : جمع آية ، وهي كما قلنا : الشيء العجيب الذي يجب أنْ يلفت الأنظار ، وألاَّ يغفل الإنسان عنه طرفة عَيْن ، ومن ذلك قولنا : فلان آية في الفصاحة ، أو آية في الجمال … إلخ . وتُطلق الآيات ويراد بها معَان ثلاثة : آيات كونية تلفت إلى المكوِّن سبحانه ، وتثبت قدرة الخالق . { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ … } [ فصلت : 37 ] . وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله ، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام ، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله . وهنا يتكلم الحق سبحانه عن الآيات الكونية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ … } [ الروم : 46 ] كلمة الرياح جمع ريح ، والرياح هنا بالمعنى العام : الهواء ، وهو أنواع : هواء ساكن { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ … } [ الشورى : 33 ] . والهواء الساكن يضايق الإنسان ، حيث يُصعِّب عليه عملية التنفس ، فيجلب الهواء لنفسه إما بيده أو بمروحة . لماذا ؟ ليجدد الأكسوجين في الهواء المحيط به فيستطيع التنفس ، والهواء يأتي مرة ساخناً يلفح الوجوه ، ومرة نسيماً رطباً مُنعِشاً عليلاً ، ويأتي عاصفاً مدمراً … الخ . والحق سبحانه - كما سبق أنْ بينَّا - رتَّب مقومات حياة الخليقة في الأرض على : الهواء ، ثم الماء ، ثم الطعام على هذا الترتيب ، وحَسْب أهمية هذه المقومات . فالهواء هو أهم مُقوِّم في حياة الكائن الحي ، حيث لا يصبر عليه الإنسان إلا لحظة بمقدار شهيق وزفير ولو حُبس عنه لمات . ثم الماء ويصبر عليه الإنسان إلى عشرة أيام . ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر . لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألاَّ يُملِّك الهواء لأحد ، ولو ملكه أحد وغضب عليك لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك ، أما الماء فقليل أنْ يُملكه للناس ، أما الطعام فكثيراً ما يملك لأن الإنسان يصبر عليه فترة طويلة تُمكِّنه أن يكتسبه ، ويحتال عليه ، أو لعل مالكَ الطعام يرقُّ قلبه ويعطيك . لذلك نسمع من عبارات التهديد : والله لأكتم أنفاسه ، كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن فِعْله لأنك قد تمنع عنه الماء أو الطعام ولا يموت ، لكن إنْ منعتَ عنه الهواء فهي نهايته ، وهي أسرع وسائل الإبادة للإنسان وأيسرها وأقلّها أثراً ، فلا يترتب عليها دم ولا جروح مجرد منديل مبلل بالماء . إذن : الهواء مُقوِّم هام حياة وإماتة . وقلنا : إذا حُبِس الهواء أو سكن لا يتجدد فيه الأكسوجين فيتضايق الإنسان لأن أنفاسه تكتم ، أما إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج : افتحوا النوافذ ، لماذا ؟ ليتجدد الهواء . إذن : إرسال الرياح في ذاتها نعمة ، فإذا كان فيها برودة وشعرت بطراوتها فهي تُبشِّرك بالمطر لذلك كان العربي يعرف المطر قبل وقوعه ويُقدِّر مسافة السحابة التي ستمطره ، إذن : فالتبشير بالمطر نعمة أخرى . وهاتان النعمتان إرسال الرياح وإنزال المطر ، لا دخلَ للإنسان فيهما { وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ … } [ الروم : 46 ] أي : بالمطر أما في آية الفلك { وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ … } [ الروم : 46 ] فنسب الجريان إلى الفُلْك لأن للإنسان يداً فيها وعملاً ، فهو صانعها ومُسيِّرها بأمر الله { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الروم : 46 ] أي : تسيرون في البحر للصيد وطلب الرزق ، أو حتى للنزهة والسياحة . إذن : الآية التي لا دخلَ للإنسان فيها تُنسَب إلى الله وحده ، وإنْ كان للإنسان فيها عمل نسبها إليه ، كما في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 58 - 61 ] . فأعطانا نعمة الحياة ، ثم ذكر ما ينقضها ، حتى لا نستقبل الحياة بغرور ، ولما كانت آية الحياة وآية الموت لا دخلَ للإنسان فيها اكتفى بهذا الاستفهام { أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [ الواقعة : 59 ] ولا أحدَ يستطيع أنْ يقول أنا خلقتُ . أما في آية الحَرْث ، فنسب الحرث إلى الإنسان لأن عمله كثير في هذه الآية ، حيث يحرث ويبذر ويروي … إلخ لذلك قال في نَقْض هذه النعمة { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً … } [ الواقعة : 65 ] وأكدَ الفعل باللام حتى لا تغترّ بعملك في الزرع . أما في الماء ، فلم يذكر هذا التوكيد لأن الماء نعمة لا يدَ للإنسان فيها لذلك قال في نقضها { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً … } [ الواقعة : 70 ] بدون توكيد . النعمة الخامسة : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الروم : 46 ] وهذه النعمة هي كنز النعم كلها وعقالها ، فإنْ شكرتَ لله نعمه عليك زادك منها : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] . وبعد ذلك يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ … } .