Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 4-5)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أثارت فرحة الكفار حفيظة المؤمنين ، إلى أنْ نزلت { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ … } [ الروم : 3 - 4 ] ففرح المؤمنون حتى قال أبو بكر : والله لا يسرُّ الله هؤلاء ، وسينصر الرومَ على فارس بعد ثلاث سنين . لأن كلمة بضع تعني من الثلاثة إلى العشرة ، فأخذها الصِّدِّيق على أدنى مدلولاتها ، لماذا ؟ لأنه الصِّديق ، والحق - سبحانه وتعالى - لا يُحمِّل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين ، وهذه من الصديقية التي تميز بها أبو بكر رضي الله عنه . " لذلك قال أبو بكر لأُبيِّ بن خلف : والله لا يقرّ الله عيونكم - يعني : بما فرحتم به من انتصار الكفار - وقد أخبرنا الله بذلك في مدة بضع سنين ، فقال أُبيٌّ : أتراهنني ؟ قال : أراهنك على كذا من القلائص - والقلوص هي الناقة التي تركب - في ثلاث سنين عشر قلائص إن انتصرت الروم ، وأعطيك مثلها إن انتصرت فارس . فلما ذهب أبو بكر إلى رسول الله ، وأخبره بما كان قال : " يا أبا بكر زِدْه في الخطر ومادِّه " ، يعني زِدْ في عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده في مدة من ثلاث سنين إلى تسع ، وفعلاً ذهب الصِّديق لأبيٍّ وعرض عليه الأمر ، فوافق في الرهان على مائة ناقة . فلما اشتدّ الأذى من المشركين ، وخرج الصِّدِّيق مهاجراً رآه أُبيُّ بن خلف فقال : إلى أين يا أبا فصيل ؟ وكانوا يغمزون الصِّدِّيق بهذه الكلمة ، فبدل أن يقولوا : يا أبا بكر . والبَكْر هو الجمل القوي يقولون : يا أبا فصيل والفصيل هو الجمل الصغير - فقال الصِّديق : مهاجر ، فقال : وأين الرهان الذي بيننا ؟ فقال : إن كان لك يكفلني فيه ولدي عبد الرحمن ، فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد الرحمن أُبياً فقال له : إلى أين ؟ فقال : إلى بدر ، فقال : وأين الرهان إنْ قتلْتَ ؟ فقال : يعطيك ولدي . وفي بدر أصيب أُبيٌّ بجرح من رسول الله مات فيه ، وقدَّم ولده الجُعْل لعبد الرحمن ، فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تصدقوا به " . وهنا وقفة إعجازية إيمانية عقدية : سبق أنْ تكلمنا عن الغيب وعن المشهد . وقلنا : إن الغيب أنواع : غيب له مقدمات تُوصِّل إليه ، كما تعطي التلميذ تمريناً هندسياً ، وكالأسرار الكونية التي يتوصَّل إليها العلماء ويكتشفونها من معطيات الكون ، كالذي اكتشف الآلة البخارية ، وأرشميدس لما اكتشف قانون الأجسام الطافية … إلخ ولا يقال لهؤلاء : إنهم علموا غيباً ، إنما أخذوا مقدمات موجودة واستنبطوا منها معدوماً . أمّا الغيب المطلق فهو الذي ليس له مقدمات تُوصِّل إليه ، فهو غيب عن كل الناس ، وفيه يقول تعالى : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } [ الجن : 26 - 27 ] . ومن الغيب ما يغيب عنك ، لكن لا يغيب عن غيرك ، كالشيء الذي يُسرق منك ، فهو غيب عنك لأنك لا تعرف مكانه ، وليس غيباً عَمَّنْ سرقه منك . وآفة الإنسان أنه لا يستغل المقدمات للبحث في أسرار الكون ليرتقي في الكونيات ، إنما يستغلها لمعرفة غيب الآخرين ، ونقول له : إن كنت تريد أن تعلم غيب الآخرين ، فاسمح لهم أنْ يعلموا غيبك وأعتقد أن أحداً لا يرضى ذلك . إذن : سَتْر الغيب عن الخَلْق نعمة كبرى لله تعالى لأنه سبحانه رب الناس جميعاً ، ويريد سبحانه أن ينتفع خَلْقه بخَلْقه ، ألا ترى أنك إنْ علمتَ في إنسان سيئة واحدة تزهدك في كل حسناته ، وتجعلك تكرهه ، وتكره كل حسنة من حسناته ، فستر الله عنك غَيْب الآخرين لتنتفع بحسناتهم . والغيب حجزه الله عنا ، إما بحجاب الزمن الماضي ، أو الزمن المستقبل ، أو بحجاب المكان ، فأنت لا تعرف أحداث الماضي قبل أنْ تُولد إلى أنْ يأتي مَنْ تثق به ، فيخبرك بما حدث في الماضي ، وكذلك لا تعرف ما سيحدث في المستقبل ، أما حاجز المكان فأنت لا تعرف ما يوجد في مكان آخر غير مكانك ، وقد يكون الشيء في مكانك ، لكن له مكين فلا تطلع عليه . ومن ذلك قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ … } [ المجادلة : 8 ] . فمَنِ الذي أخبر رسول الله بما في نفوسهم ؟ لقد خرق الله له حجاب المكان ، وأخبره بما يدور في نفوس القوم ، وأخبرهم رسول الله به ، أَمَا كان هذا كافياً لأن يؤمنوا بالله الذي أخرج مكنون صدورهم ؟ إذن : المسألة عندهم عناد ولجاجة وإنكار . وكذلك ما كان من رسول الله في غزوة مؤتة التي دارتْ على أرض الأردن ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة - ونعلم أن أهل السيرة لا يطلقون اسم الغزوة إلا على التي حضرها رسول الله ، وكل حدث حربي لم يحضره رسول الله نسميه سرية إلا مؤتة هي التي انفردتْ بهذه التسمية ، فلماذا مع أن رسول الله لم يشهدها ؟ قالوا : بل شهدها رسول الله وهو بالمدينة ، بما كشف الله له من حجاب المكان وأطلعه على ما يدور هناك حتى كان يخبر صحابته بما يدور في الحرب كأنه يراها ، فيقول : أخذ الراية فلأن فقُتِل ، فأخذها فلان فقُتِل ، فلما جاءهم الخبر وجدوا الأمر كما أخبر به سيدنا رسول الله . كما خَرق له حجاب الماضي ، فأخبره بحوادث في الأمم السابقة كما في قوله سبحانه : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ … } [ القصص : 44 ] { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا … } [ القصص : 45 ] . كما خرق له صلى الله عليه وسلم حجاب المستقبل ، كما في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ . . } [ الروم : 3 - 4 ] فأروني أيّ قوة كمبيوتر في الدنيا تُنبئنا بنتيجة معركة ستحدث بعد ثلاث إلى تسع سنين . فمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو النبي الأمي المقيم في جزيرة العرب ولا يعرف شيئاً عن قوة الروم أو قوة الفرس - يخبرنا بهذه النتيجة لأن الذي يعلم الأشياء على وَفْق ما تكون هو الذي أخبره ، وكون محمد صلى الله عليه وسلم يعلنها ويتحدَّى بها في قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة دليل على تصديقه بمنطق الله له ، وأنه واثق من حدوث ما أخبر به . ولهذه الثقة سُمِّي الصِّديق صدِّيقاً ، فحين أخبروه بمقالة رسول الله عن الإسراء ما كان منه إلا أنْ قال : إنْ كان قال فقد صدق ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بهذه النتيجة ، ويراهن المشركين عليها ، ويتمسك بها ، وما ذاك إلا لثقته في صدق هذا البلاغ ، وأنه لا يمكن أبداً أنْ يتخلف . وقوله تعالى { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ … } [ الروم : 4 ] يعني : إياكم أنْ تفهموا أن انتصار الفرس على الروم أو انتصار الروم على الفرس خارج عن مرادات الله ، فلله الأمر من قبل الغلب ، ولله الأمر من بعد الغلب . فحين غَلبت الروم لله الأمر ، وحين انتصرت الفرس لله الأمر لأن الحق سبحانه يهيج أصحاب الخير بأن يُغلِّب أصحاب الشر ، ويُحرِّك حميتهم ويُوقظ بأعدائهم مشاعرهم ، ويُنبّههم إلى أن الأعداء لا ينبغي أن يكونوا أحسن منهم . إذن : فنصر المكروه لله على المحبوب لله جاء بتوقيت من الله لذلك إياك أن تحزن حين تجد لك عدواً ، فالأحمق هو الذي يحزن لذلك ، والعاقل هو الذي يرى لعدوه فَضْلاً عليه ، فالعدو يُذكِّرني دائماً بأن أكون قوياً مستعداً ، يُذكِّرني بأن أكون مستقيماً حتى لا يجد عدوي مني فرصة أو نقيصة . العدو يجعلك تُجنِّد كل ملكاتك للخير لتكون أفضل منه لذلك يقول الشاعر : @ عدايَ لَهُمْ فَضْلٌ عليَّ ومِنَّةٌ فَعِنْدي لهُم شُكْرٌ على نَفْعهم ليَا فَهُمْ كدَواءٍ والشِّفاء بمُرِّهِ فَلا أَبْعَد الرحمنُ عنِّي الأعَادِيَا وهْم بحثُوا عَنْ زَلَّتي فَاجْتنبتُها وهُمْ نافسُوني فاكتسبْتُ المعَاليَا @@ إذن : لله الأمر من قبل ومن بعد ، وله الحكمة في أنْ ينتصر الباطل ، أَلاَ ترى غزوة أحد ، وكيف هُزِم المسلمون لما خالفوا أمر رسول الله وتركوا مواقعهم طمعاً في مغنم ، انهزموا في أول الأمر ، مع أن رسول الله معهم لأن سنة الله في كونه تقضي بالهزيمة حين نخالف أمر رسول الله ، وكيف يكون الحال لو انتصر المسلمون مع مخالفتهم لأمر رسولهم ؟ لو انتصروا لفقد أمر الرسول مصداقيته ، ولما أطاعوا له أمراً بعد ذلك . وفي يوم حنين : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ … } [ التوبة : 25 ] حتى إن أبا بكر نفسه ليقول : لن نُغلب اليوم عن قِلّة ، فلما نظروا إلى قوتهم ونسُوا تأييد الله هُزِموا في بداية الأمر ، ثم يحنّ الله عليهم ، وتتداركهم رحمته تعالى ، فينصرهم في النهاية . إذن : فلله الأمر من قبل ومن بعد ، فإياك أن تظن أن انتصار الباطل جاء غصْباً عن إرادة الله ، أو خارجاً عن مراده ، إنما أراده الله وقصده لحكمة . ثم يقول سبحانه : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ … } [ الروم : 4 - 5 ] أيّ نصر الذي يفرح به الؤمنون ؟ أيفرحون لانتصار الروم على الفرس ؟ قالوا : بل الفرح هنا دوائر متشابكة ومتعالية ، فهم أولاً يفرحون لانتصار أهل دين وأهل كتاب على كفار وملاحدة ، ويفرحون أن بشرى رسول الله تحققتْ ، ويفرحون لأنهم آمنوا برسول الله ، وصدَّقوه قبل أن ينطق بهذه البشرى . إنهم يفرحون لأنهم أصابوا الحق ، فكلما جاءت آية فرح كل منهم بنفسه لأنه كان محقاً حينما آمن بالإله الواحد الذي يعلم الأمور على وفق ما ستكون واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم . إذن : لا تقصر هذه الفرحة على شيء واحد ، إنما عَدِّها إلى أمور كثيرة متداخلة . كما أن اليوم الذي انتصر فيه الروم صادف اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في بدر . وقوله تعالى { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ … } [ الروم : 5 ] الفرس أو الروم ، ما دام أن له الأمر من قبل ومن بعد { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } [ الروم : 5 ] الحق سبحانه وصف نفسه بهاتين الصفتين : العزيز الرحيم ، مع أن العزيز هو الذي يغلب ولا يُغْلب ، فقاهريته سبحانه عالية في هذه الصفة - ومع ذلك أتبعها بصفة الرحمة ليُحِدث في نفس المؤمن هذا التوازن بين صفتي القهر والغلبة وبين صفة الرحمة . كما أننا نفهم من صفة العزة هنا أنه لا يحدث شيء إلا بمراده تعالى ، فحين ينتصر طرف وينهزم طرف آخر حتى لو انتصر الباطل لا يتم ذلك إلا لمراده تعالى لأن الله تعالى لا يُبقي الباطل ولا يُعلي الكفر إلا ليظهر الحق ، فحين يُعَضُّ الناس بالباطل ، ويشقَوْن بالكفر يفزعون إلى الإيمان ويتمسكون به . واقرأ قوله تعالى : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا … } [ التوبة : 40 ] ولم يقل : وجعل كلمة الله هي العليا لأنها ليستْ جَعْلاً لأن الجَعْل تحويل شيء إلى شيء ، أما كلمة الله فهي العليا بداية ودائماً ، وإنْ علت كلمة الباطل إلى حين . ثم يقول الحق سبحانه : { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ … } .