Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 52-52)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يريد الحق سبحانه أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يألم لما يلاقيه من قومه ، يقول له : يا محمد لا تُتعب نفسك لأن هؤلاء لا يؤمنوا ، وما عليك إلا البلاغ ، فلا تيأس لإعراض هؤلاء ، ولا تتراجع عن تبليغ دعوتك والجهاد في سبيلها والجهر بها لأنني أرسلتك لمهمة ، ولن أتخلى عنك ، وما كان الله ليرسل رسولاً ثم يخذله أو يُسْلمه . وقد قال تعالى لنبيه : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] ولو أردتُ لجعلتُهم مؤمنين قَسراً لا يملكون أنْ يكفروا : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] . إنما أريد أنْ يأتوني طواعية عن محبة ، لا عن قهر لأنني لا أريد قوالبَ تخضع ، إنما قلوباً تخشع ، ويستطيع أيُّ بشر بجبروته أنْ يجعلَ الناس تخضع له أو تسجد ، لكنه لا يستطيع مهما أُوتِي من قوة أنْ تُخْضِع قلوبهم ، أو يحملهم على حُبِّه . وهنا يقول تعالى لنبيه : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ … } [ الروم : 52 ] فجعلهم في حكم الأموات ، وهم أحياء يُرْزَقون ، لماذا ؟ لأن الذي لا ينفعل لما يسمع ولا يتأثر به ، هو والميت سواء . أو نقول : إن للإنسان حياتين : حياة الروح التي يستوي فيها المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي ، وحياة المنهج والقيم ، وهذه للمؤمن خاصة ، والتي يقول الله فيها : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُفواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ … } [ الأنفال : 24 ] . فهو سبحانه يخاطبهم هذا الخطاب وهم أحياء ، لكن المراد هنا حياة المنهج والقيم ، وهي الحياة التي تُورِثك نعيماً دائماً باقياً لا يزول ، خالداً لا تتركه ولا يتركك . لذلك يقول سبحانه عن هذه الحياة : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] . لذلك سمَّى الله المنهج الذي أنزله على رسوله روحاً : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا … } [ الشورى : 52 ] لأن المنهج يعطيك حياة باقية لا تنزوي ولا تزول . وسمَّى الملَك الذي نزل به روحاً : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] فالمنهج روح من الله ، نزل به روح من الملائكة هو جبريل عليه السلام على قلب سيدنا رسول الله ليحمله رسول مصطفى فيبثُّه في الناس جميعاً ، فَيحيَوْن الحياة الآخرة . فالكفار بهذا المعنى يحيَوْن حياة روح القالب التي يستوي فيها جميع البشر ، لكن هم أموات بالنسبة للروح الثانية ، روح القيم والمنهج . لذلك ، إذا كان عندنا شخص شقي أو بلطجي يفسد في المجتمع أكثر مما يصلح نقول له : أنت وجودك مثل عدمه ، لماذا ؟ لأن الحياة إذا لم تُستغل في النافع الدائم ، فلا معنى لها . وهنا يقول تعالى لنبيه : لا تحزن ، ولا تذهب نفسك على هؤلاء القوم الحسرات ، فهم موتى لم يقبلوا روح المنهج وروح القيم ، وما داموا لم تدخلهم هذه الروح ، فلا أملَ في إصلاحهم ، ولن يستجيبوا لك ، فالاستجابة تأتي ممن أصغى سمعه ، وأعمل عقله في الكون من حوله ليصل إلى حقيقة الحياة ولغز الوجود . وسبق أنْ قُلْنا : إنك إذا سقطتْ بك طائرة مثلاً في صحراء ، وانقطعت عن الناس ، فلا أنيس ولا شيء من حولك ، ثم فجأة رأيتَ أمامك مائدة عليها أطايب الطعام والشراب ، فطبيعي قبل أنْ تمتد يدك إليها لا بُدَّ أنْ تسأل نفسك : مَنْ أتى بها ؟ كذلك أنت أيها الإنسان طرأتَ على كون مُعَدٍّ لاستقبالك ، مليء بكل هذا الخير ، بالله ألاَ يستدعي هذا أنْ تسأل مَنْ أعد لي هذا الكون ؟ ثم لم يدَّع أحد هذا الكون لنفسه ، ثم جاءك رسول من عند الله يخبرك بحقائق الكون ، ويحل لك لغز الحياة والوجود ، لكن هؤلاء القوم لما جاءهم رسول الله أبَوْا أن يستمعوا إليه ، ولم يقبلوا الروح الذي جاءهم به . والحق سبحانه يعرض لنا هذه المسألة في آية أخرى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] وهذا يعني أن روح المنهج لم تباشر قلوبهم . ويردُّ الحق عليهم : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] . فالقرآن واحد ، لكن المستقبل للقرآن مختلف ، فواحد يسمعه بأذن مُرْهفة وقلب واعٍ فيستفيد ، ويصل إلى حَلِّ اللغز في الكون وفي الخَلْق لأنه استجاب للروح الجديدة التي أرسلها الله له ، وآخر أعرض . وهؤلاء الذين أعرضوا عن القرآن إنما يخافون على مكانتهم وسيادتهم ، فهم أهل فساد وطغيان ، ويعلمون أن هذا المنهج جاء ليقيد حرياتهم ، ويقضي على فسادهم وطغيانهم لذلك رفضوه . لذلك تجد أن الذين تصدَّوْا لدعوات الرسل وعارضوهم هم السادة والكبراء ، أَلاَ تقرأ قول الحق سبحانه عن مقالتهم : { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [ الأحزاب : 67 ] . إذن : لا تتعجب من أنَّ القرآن يسمعه إنسان فيقول مُستلذاً به : الله ، أعِدْ ، وآخر ينصرف عنه لا يدري ما يقول ، والمنصرف عن القرآن نوعان : إما ينصرف عنه تكبُّراً يعني : وعي القرآن وفهمه لكن تكبَّر على الانصياع لأوامره ، وآخر سمعه لكن لم يفهمه لأن الله ختم على قلبه . ومهمة الداعي أنْ يتعهد المدعو ، وألاَّ ييأس لعدم استجابته ، وعليه بتكرار الدعوة له ، لعله يصادف عنده فترة صفاء وفطرة ، وخلو نفس ، فتثمر فيه الدعوة ويستجيب . وإلا فقد رأينا من أهل الجاهلية مَنْ أسلم بعد فترة طويلة من عمر الدعوة أمثال : خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعكرمة ، وغيرهم . ونعلم كم كان عمر بن الخطاب كارهاً للإسلام معادياً لأهله ، وقصة ضَرْبه لأخته بعد أنْ أسلمتْ قصة مشهورة لأنها كانت سبب إسلامه ، فلما ضربها وشجَّها حتى سال الدم منها رقَّ قلبه لأخته ، فلما قرأت عليه القرآن صادف منه قلباً صافياً ، وفطرة نقية نفضت عنه عصبية الجاهلية الكاذبة فانفعل للآيات وباشرتْ بشاشتها قلبه فأسلم . لذلك أمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يجهر بالدعوة ، وأنْ يصدع بما يُؤمر ، لعلَّ السامع تصادفه فترة تنبه لفطرته ، كما حدث مع عمر . وحين نلحظ الفاء في بداية هذه الآية { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ … } [ الروم : 52 ] نجد أن التقدير : فلا تحزن ، ولا يهولنك إعراضهم لأنك ما قصرْتَ في البلاغ ، إنما التقصير من المستقبل لأنهم لم يقبلوا الروح السامية التي جاءتهم ، بل نفروا من السماع ، وتناهوا عنه ، كما حكى القرآن عنهم : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] . ونَهْى بعضهم بعضاً عن سماع القرآن دليل على أنهم يعلمون أن مَنْ يسمع القرآن بأذن واعية لا بُدَّ أنْ يؤمن به وأنْ يقتنع . ثم يقول سبحانه : { وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } [ الروم : 52 ] وفي موضع آخر : { وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ … } [ فصلت : 44 ] وقال أيضاً : { صُمٌّ بُكْمٌ … } [ البقرة : 18 ] . وقد علمنا من وظائف الأعضاء أن البكَم يأتي نتيجة الصمم لأن اللسان يحكي ما سمعته الأذن ، فإذا كانت الأذن صماء فلا بُدَّ أن يكون اللسان أبكمَ ، ليس لديه شيء يحكيه . لذلك نجد الطفل العربي مثلاً حين ينشأ في بيئة إنجليزية يتكلم الإنجليزية لأنه سمعها وتعلمها ، بل نجد صاحب اللغة نفسه تُعرض عليه الكلمات الغربية من لغته فلا يعرفها لماذا ؟ لأنه لم يسمعها ، فحين يقول العربي عن العجوز : إنها الحَيْزبون والدَّردبيس … الخ تقول : ما هذا الكلام ، مع أنه عربي لكن لم تسمعه أذنك . والأذن هي أداة الالتقاط الأولى لبلاغ الرسالة ، وما دام الله تعالى قد حكم عليهم بأنهم في حكم الأموات ، فالإحساس لديهم ممتنع ، فالأذن لا تسمع آيات القرآن ، والعين لا ترى آيات الكون ولا تتأملها . لذلك قال تعالى عنهم : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] . وكلمة أعمى نقولها للمبصر صحيح العينين حينما يخطىء في شيء ، فتقول له : أنت أعمى ؟ لماذا ، لأنه وإنْ كان صحيح العينين ، إلا أنه لم يستعملهما في مهمتهما ، فهو والأعمى سواء . وهؤلاء القوم وصفهم الله بأنهم أولاً في حكم الأموات ، ثم هم مصابون بالصمم ، فلا يسمعون البلاغ ، وتكتمل الصورة بأنهم عُمْى لا يروْنَ آيات الإعجاز في الكون ، وليتهم صُمٌّ فحسب ، فالأصم يمكن أن تتفاهم معه بالإشارة فينتفع بعينيه إنْ كان مقبلاً عليك ، لكن ما الحال إذا كان مدبراً ، كما قال تعالى : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } [ الروم : 52 ] يعني : أعطوْكَ ظهورهم ، إذن : لم يَعُدْ لهم منفذ للتلقي ولا للإدراك ، فهم صُم بُكْم ، وبالإدبار تعطلت أيضاً حاسة البصر ، فلا أملَ في مثل هؤلاء ، ولا سبيل إلى هدايتهم .