Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 54-54)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق - تبارك وتعالى - بعد أنْ عرض علينا بعض الأدلة في الكون من حولنا يقول لنا : ولماذا نذهب بعيداً إذا لم تكْفِ الآيات في الكون من حولك ، فانظر في آيات نفسك ، كما قال سبحانه : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] وجمع بين النوعين في قوله سبحانه : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ … } [ فصلت : 53 ] . فهنا يقول : تأمل في نفسك أنت : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ … } [ الروم : 54 ] ، فإنْ قال الإنسان المكلف الآن : أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خُلِقْتُ منها . نقول : نعم لم تشاهدها في نفسك ، فلم تكُنْ لك ساعتها مشاهدة ، لكن شاهدتها في غيرك ، شاهدتها في الماء المهين الذي يتكوَّن منه الجنين ، وفي الأم الحامل ، وفي المرأة حين تضع وليدها صغيراً ضعيفاً ، ليس له قَدَم تسعى ، ولا يَدٌ تبطش ، ولا سِنٌّ تقطع ، ومع ذلك رُبي بعناية الله حتى صار إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الآن . إذن : فدليل الضعف مشهود لكل إنسان ، لا في ذاته ، لكن في غيره ، وفي مشاهداته كل يوم ، وكل منا شاهد مئات الأطفال في مراحل النمو المختلفة ، فالطفل يُولَد لا حولَ له ولا قوة ، ثم يأخذ في النمو والكِبَر فيستطيع الجلوس ، ثم الحَبْو ، ثم المشي ، إلى أنْ تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشْد والفتوة . وعندها يُكلِّفه الحق - سبحانه وتعالى - وينبغي أنْ نكلفه نحن أيضاً ، وأنْ نستغل فترة الشباب هذه في العمل المثمر ، فنحن نرى الثمرة الناضجة إذا لم يقطفها صاحبها تسقط هي بين يديه ، وكأنها تريد أنْ تؤدي مهمتها التي خلقها الله من أجلها . لذلك ، فإن آفتنا نحن ومن أسباب تأخُّر مجتمعاتنا أننا نطيل عمر طفولة أبنائنا ، فنعامل الشاب حتى سِنِّ الخامسة والعشرين على أنه طفل ، ينبغي علينا أن نلبي كل رغباته لا ينقصنا إلا أنْ نرضعه . آفتنا أن لدينا حناناً مرق لا معنى له ، أما في خارج بلادنا ، فبمجرد أن يبلغ الشاب رُشَدْه لم يَعُدْ له حق على أبيه ، بل ينتقل الحق لأبيه عليه ، ويتحمل هو المسئولية . والحق سبحانه يُعلِّمنا في تربية الأبناء أنْ نُعوِّدهم تحمُّل المسئولية في هذه السِّنِّ : { وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ النور : 59 ] . فانظر أنت أيها الإنسان الذي جعلتَ كل الأجناس الأقوى منك في خدمتك ، انظر في نفسك وما فيها من آيات وما بين جنبيك من مظاهر قدرة الله ، فقد نشأتَ ضعيفاً لا تقدر على شيء يخدمك غيرك . ومن حكمته تعالى في الطفل ألاَّ تظهر أسنانه طوال فترة الرضاعة حتى لا يؤذي أمه ، ثم تخرج له أسنان مؤقتة يسمونها الأسنان اللبنية لأنه ما يزال صغيراً لا يستطيع تنظيفها ، فيجعلها الله مؤقتة إلى أن يكبر ويتمكَّن من تنظيفها ، فتسقط ويخرج مكانها الأسنان الدائمة ، ولو تأملتَ في نفسك لوجدتَ ما لا يُحصى من الآيات . { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً … } [ الروم : 54 ] أي : قوة الشباب وفتوته : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً … } [ الروم : 54 ] أي : ضعف الشيخوخة ، وهذا الضعف يسري في كل الأعضاء ، حتى في العلم ، وفي الذاكرة { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً … } [ الحج : 5 ] . ويظل بك هذا الضعف حتى تصير إلى مثل الطفل في كل شيء تحتاج إلى مَنْ يحملك ويخدمك إذن : لا تأخذ هذه المسألة بطبع تكوينك ، ولكن بإرادة مُكوِّنك سبحانه ، فبعد أنْ كنتَ ضعيفاً يُقوِّيك ، وهو سبحانه القادر على أنْ يعيدك إلى الضعف ، بحيث لا تستطيع عقاقير الدنيا أنْ تعيدك إلى القوة لذلك يسخر أحد العقلاء ممن يتناولون الفيتامينات في سِنِّ الشيخوخة ، ويقول : يا ويل مَنْ لم تكُنْ فيتاميناته من ظهره . لذلك تلحظ الدقة في الأداء في قول سيدنا زكريا : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي … } [ مريم : 4 ] لأن العظم آخر مخزن لقُوت الإنسان ، حيث يختزن فيه ما زاد عن حاجة الجسم من الطاقة ، فإذا لم يتغذَّ الجسم بالطعام يمتصّ من هذا المخزون من الشحوم والدهون ، ثم من العضل ، ثم من نخاع العظم ، وهو آخر مخزن للقوت في جسمك . فمعنى قول سيدنا زكريا : { إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي … } [ مريم : 4 ] يعني : وصلتُ إلى مرحلة الحرض التي لا أملَ معها في قوة ، ويؤكد هذا المعنى بقوله { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً … } [ مريم : 4 ] . وقلنا : إن بياض الشعر ليس لوناً ، إنما البياض انعدام اللون لذلك فاللون الأبيض ليس من ألوان الطيف ، ومع الشيخوخة تضعف أجهزة الإنسان ، وتضعف الغدد المسئولة عن لون الشعر عن إفراز اللون الأسود ، فيظهر الشعر بلا لون . ونلحظ أن أغلب ما يشيب الناس يشيبون مما يُعرف بـ " السوالف " من هنا ومن هنا ، لماذا ؟ قالوا : لأن الشعرة عبارة عن أنبوب دقيق ، فإذا قُصَّتْ أثناء الحلق ينفتح هذا الأنبوب ، وتدخله بعض المواد الكيمياوية مثل الصابون والكولونيا ، فتؤثر على الحويصلات الملوّنة وتقضي عليها لذلك نلاحظ هذه الظاهرة كثيراً في المترفين خاصة لذلك تجد بعض الشباب يظهر عندهم الشيب في هذه المناطق من الرأس . وقد رتب سيدنا زكريا مظاهر الضعف بحسب الأهمية ، فقال أولاً { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي … } [ مريم : 4 ] ثم { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً … } [ مريم : 4 ] ومع كِبَر سيدنا زكريا وضعفه ، ومع أن امرأته كانت عاقراً إلا أن الله تعالى استجاب له في طلبه للولد الذي يرث عنه النبوة ، فبشَّره بولد وسمَّاه يحيى ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنا : إياكم ، ألا أستطيع أنْ أخلق مع الشيب والكبر والضعف ؟ لذلك قال بعدها : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ … } [ الروم : 54 ] . وقال في شأن زكريا عليه السلام : { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] . وقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } [ الروم : 54 ] أي : أن هذا الخَلْق ناشىء عن علم { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] لكن العلم وحده لا يكفي ، فقد تكون عالماً لكنك غير قادر على تنفيذ ما تعلم ، كمهندس الكهرباء ، لديه علم واسع عنها ، لكنه لا يستطيع تنفيذ شبكة أو معمل كهرباء ، فيذهب إلى أحد الممولين ليعينه على التنفيذ لذلك وصف الحق سبحانه نفسه بالعلم والقدرة . إذن : هذا هو الدليل النفسي على الموجد الحق الفاعل المختار الذي يفعل الأشياء بعلم وقدرة ، ولا يكلفه العمل شيئاً ولا يستغرق وقتاً لأنه سبحانه يقول للشيء : كن فيكون ، ولا تتعجب أن ربك يقول للشيء كُنْ فيكون لأنك أيها المخلوق الضعيف تفعل هذا مع أعضائك وجوارحك . وإلاَّ فقُلْ لي : ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تقوم مثلاً أو تحمل شيئاً مجرد أن تريد الحركة تجد أعضاءك طوع إرادتك ، ودون أنْ تدري بما يحدث بداخلك من انفعالات وحركات ، وإنْ قُلت فأنا كبير وأستطيع أداء هذه الحركات كما أريد ، فما بالك بالطفل الصغير ؟ وسبق أن ضربنا مثلاً لتوضيح هذه المسألة بالبلدوزر ، فلكل حركة منه ذراع خاص بها يُحرِّكه السائق ، وأزرار يضرب عليها ، وربما احتاج السائق لأكثر من أداة التحريك هذه الآلة حركة واحدة . أما أنت فمجرد أن تريد تحريك العضو تجده يتحرك معك كما تريد دون أن تعرف العضلات والأعصاب التي شاركت في حركته ، فإذا كنتَ أنت على هذه الصورة ، أتعجب من أن الله تعالى يقول للشيء كن فيكون ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ … } .