Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 7-7)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذا رأيت فعلاً نُفِي مرة ، وأُثبت مرة أخرى ، فاعلم أن الجهة منفكة ، فهم لا يعلمون بواطن الأمور ، إنما يعلمون ظواهرها ، وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء ، إنما ظواهر الدنيا فحسب ، ولا يعلمون بواطنها ، فما بالك بالآخرة ؟ حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر ، ثم رجعوا عنها بعد حين ، تجد أننا لا نعلم من الدنيا إلا الظاهر ، فمثلاً قانون الإصلاح الزراعي الذي نعمل به منذ عام 1952 ، وكنا مُتحمِّسين له نُمجِّده ولا نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم ، ويطلبون إعادة النظر فيه ، بل إلغاءه لأنه لم يَعُدْ صالحاً للتطبيق في هذا العصر ، روسيا التي تبنتْ النظام الشيوعي ودافعتْ عنه بكل قوة هي التي نقضتْ هذا النظام وأسقطته . ما أسقطته أمريكا مثلاً ، ولو أسقطته أمريكا لانتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها لذلك يقولون : ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها . ومن الممكن أن ينتحر هؤلاء كما انتحرتْ نُظمهم فأوْلَى بهم أنْ يستقيموا لله ، وأن يُخِلصوا للناس . إذن : لا نعرف من الدنيا إلا ظواهر الأشياء ، ولا نعرف حقيقتها ، كما نشقى الآن بسبب المبيدات الحشرية التي ظننا أنها ستُريحنا وتُوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية ؟ كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلاً من تلوث في البيئة وقتْل للأرواح كل يوم ، ولك أن تقارن بين وسائل المواصلات في الماضي ووسائل المواصلات اليوم ، فإن كان للوسائل الحديثة نفع عاجل ، فلها ضرر آجل ، ويكفي أن عادم المخلوق لله يصلح الأرض ، وعادم المخلوق للبشر يفسدها ، لماذا ؟ لأننا نعلم ظواهر الأشياء . ولو علم الذي اكتشف السولار مثلاً حقيقته لما استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الآن . هذا عن عِلْمنا بأمور الدنيا ، أمّا الآخرة فنحن في غفلة عنها لذلك يقول سيدنا الحسن : أعجب للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه ، و يرنه فيعرف زيوفه من جيده ، ولا يحسن الصلاة . ومن ذلك قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ … } [ الأنفال : 17 ] فنفى الرمي ، وأثبته في آية واحدة لأن الجهة منفكة ، فالإثبات لشيء ، والنفي لشيء آخر . وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلِّب صفحاته ويهزّ رأسه ، كأنه يقرأ ، فإذا ما أختبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئاً ، فتقول له : ذاكرتَ وما ذاكرتَ لأنه فعل فِعْل المذاكرة ، ومع ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر لأنه لم يُحصِّل شَيئاً مما ذاكره . كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش الكفار ، لكن { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ … } [ الأنفال : 17 ] هذه الحفنة لأن قدرتك البشرية لا توصل هذه الرمية إلى كل الجيش ، فهذه إذن قدرة الله . ونلحظ في قوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الروم : 6 ] أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة ، فلماذا استثنى هذه الفئة مع أننا نُغيِّر النظم الدنيوية والقوانين على الجميع ؟ قالوا : لأنه حين وُضِعت هذه القوانين وشُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ولا تقرها ، لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم . والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملاذ وشهوات ، البعض يعطي لنفسه فيها الحرية المطلقة ، وينسي عاقبة ذلك في الآخرة ، لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن لا يحسب حساباً للعواقب : الديب بلع منجل ، فيقول الآخر : ساعة خراه تسمع عواه . واقرأ قوله تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [ آل عمران : 14 ] . فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسُوا الباقيات الصالحات في الآخرة ، والعاقل هو الذي يستطيع أنْ يُوازن بينهما ، وسبق أنْ قُلْنا عن الدنيا بالنسبة لك : هي مدة بقائك فيها ، هي عمرك أنت لا عمر الدنيا كلها ، كما أن عمرك فيها محدود مظنون لا بُدَّ أن ينتهي بالموت . أما الآخرة فدار باقية دائمة ، دار نعيم لا ينتهي ، ولا يفوتك بحال ، فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية ؟ لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة ؟ لذلك لما سُئِل الإمام علي : أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ فقال : لم يدع الله الجواب لي ، إنما الجواب عندك أنت ، فإنْ دخل عليك اثنان : واحد جاء بهدية ، والآخر جاء يسألك عطية ، فإنْ كنت تهشُّ لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا ، وإنْ كنت تهشُّ لمن يطلب العطية فأنت من أهل الآخرة . لماذا ؟ لأن الإنسان يحب مَنْ يُعمِّر ما يحب ، فإنْ كنتَ تحب الآخرة فإنك تحب بالتالي مَنْ يعمرها لك ، وإنْ كنتَ تحب الدنيا فإنك تحب مَنْ يعمرها لك لذلك كان أحد الصالحين إنْ جاءه سائل يطرق بابه يهشُّ في وجهه ، ويبَشُّ ويقول : مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة . لكن ، لماذا أعاد الضمير في { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] لماذا لم يقل : وهم عن الآخرة غافلون ؟ لو قال الحق سبحانه وهم عن الآخرة غافلون لَفُهم أن الغفلة مسيطرة عليهم ، وليست هناك أدلة تُوقِظهم ، إنما { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] يعني : الغفلة واقعة منهم أنفسهم ، وإلاَّ فالأدلة واضحة ، لكن ما جدوى الأدلة مع قوم هم غافلون . ثم يقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ … } .