Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 8-8)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المعنى : أن يكون ذلك منهم : لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، ويغفلون عن الآخرة ، ولم يتفكروا في أنفسهم ، فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم ، ومرة في السماوات والأرض . الدليل في الأنفس يقول لك : فكِّر في نفسك . أي : اجعلها موضوع تفكيرك ، وتأمل ما فيها من أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل ، فإلى الآن ومع ما توصَّل إليه العلم ما زال في الإنسان أسرار لم تُكتشف بعد . تأمل في مقومات حياتك : الأكل والشرب والتنفس ، وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر ، تتغذى من المخزون في جسمك ، وتصبر على الماء من ثلاثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في جسمك من مائية ، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير . لذلك من حكمته تعالى حين أمَّن للبشر هذه المقوِّمات أنْ جعل مدة صبرك على الطعام أطول ، لأن طعامك قد يحتكره غيرك ، فتحتاج إلى طلبه والسَّعْي إليه ، أما الماء فمدة الصبر عليه أقل ، لذلك جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلاً . أما الهواء الذي لا تصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير ، فمن حكمة الله تعالى ألاَّ يُملَّك لأحد أبداً ، وإلا لو احتكر الناسُ الهواء لما استقامت الحياة ، فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك . تأمل في نفسك حين تأكل الطعام ، وفيك مدخلان متجاوران : القصبة الهوائية ، وهي مجرى الهواء للرئتين ، والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة ، تأمل ما يحدث لك إنْ دخلتْ حبة أرز واحدة في القصبة الهوائية ، فبلا شعور تشرَق بها ، وتظل تقاومها حتى تخرج ، وتأمل حركة لسان المزمار حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع ، هذه الحركة التلقائية التي لا دخلَ لك فيها ، ولا قدرة لك عليها بذاتك . تأمل وضع المعدة ، وكيف أن الله جعل لها فتحة يُسمونها فتحة الفؤاد ، هي التي تُغلق المعدة بإحكام بعد الطعام ، حتى لا تؤذيك رائحته بأنْ تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك ، فمن أصابه خلل في إغلاق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه أبخر . كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعياً مستريحاً ؟ وفجأت تحتاج إلى الحمام وإلى قضاء الحاجة ، ماذا حدث ؟ والأمر كذلك في شربة الماء ، ذلك لأن لجسمك طاقة تحمُّل في الأمعاء وفي المثانة ، ففي لحظة يزيد الحمل عن الطاقة ، فتشعر بالحاجة إلى الإخراج . وهذا مجال لا حصرَ له مهما تقدمتْ العلوم ، ومهما بحثنا في أنفسنا ، ويكفي أن نقرأ : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات السماء والأرض لأن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السماوات والأرض من آيات ، أما نفسي فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك . { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ … } [ الروم : 8 ] أي : فكِّروا في أنفسكم بعيداً عن ضجيج الناس وجدالهم ومِرائهم ، فحين تجادل الناس تجد لجاجة وحرصاً على الظهور ، ولو بالباطل ، إنما حينما تكون مع نفسك تسألها وتتأمل فيها ، فلا مُهيج ولا مُعاند ، لا تخجل أنْ ينتصر عليك خَصْمك ، ولا تطمع في مكانة أو منزلة لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة . لذلك يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ … } [ سبأ : 46 ] يعني : يا مَنْ تفكِّرون في صدق هذا الرسول ، وتتهمونه بالكذب والافتراء والسحر … الخ أريد منكم شيئاً واحداً { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ … } [ سبأ : 46 ] أي : مثنى مثنى ، أو منفردين ، كلٌّ على حدة { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبأ : 46 ] . إذن : الطريق إلى الحقيقة لا يكون بالمجادلة الجماهيرية ، إنما بتأمل الإنسان مع نفسه ، أو مع مثله ، فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العْلُو والانتصار لذلك حين تناقش العاقل يقول لك حسيبك تراجع نفسك يعني : تفكَّر وحدك بحيث لا تُحرج من أحد ، فتكون أقرب للموضوعية وللوصول إلى الحق . وبعد أنْ أمرنا ربنا بالتفكّر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السماوات والأرض { مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى … } [ الروم : 8 ] . وهناك آية أخرى تقدم التفكُّر في السماء والأرض على التفكّر في النفس ، هي قوله تعالى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] . لماذا ؟ لأن الإنسان قد يموت قبل أنْ يُولد ، ويموت بعد عدة سنوات ، أو حتى بعد مئات السنين ، أما السماوات والأرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر … إلخ فهي كما هي منذ خلقها الله لم تتغير ، وهي تؤدي مهمتها دون تخلُّف ، ودون صيانة ، ودون أعطال ، فهي بحقٍّ أعظم من خَلْق الناس وأكبر . إذن : الآيات والأدلة في أنفسكم وفي السماوات والأرض ، لكن أيهما الآية الأقوى ؟ قالوا : ما دامت السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس فهي الأقوى ، فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك لذلك يقول العلماء بالمفيد والمستفيد ، المفيد هو الله - عز وجل - فحينما يضرب لي مثلاً يضرب لي بالأقوى ، فإنْ لم أُطِقْه يأتي لي بالأقل ، والمستفيد هو الذي ينتقل من الأقل للأكبر . ومعنى { وَمَا بَيْنَهُمَآ … } [ الروم : 8 ] أي : من الكواكب والأفلاك والنجوم التي نشاهدها في جَوِّ السماء ، وكانوا في الماضي لما أرادوا أنْ يُقرِّبوا أمور الدين لعقول الناس يقولون : الكواكب السبعة هي السماوات السبع ، ووقع فيها علماء كبار ، لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها دون السماء الدنيا ، واقرأ قول الله تعالى : { وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ … } [ فصلت : 12 ] . فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها ؟ ! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس ، أو بينك وبين القمر ؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية ، وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية ، وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية . ولك أن تضرب مليون سنة في 365 يوماً ، وتضرب الناتج في 24 ساعة ، وتضرب الناتج في ستين دقيقة ، ثم في ستين ثانية ، ثم تضرب الناتج من ذلك في 300 ألف كيلو ، ثم تأمل الرقم الذي وصلتَ إليه . وما أسكتَ القائلين بأن الكواكب السبعة هي السماوات السبع إلا أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكباً جديداً حول الشمس ، وبعد سنوات اكتشفوا آخر . كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر أسرع هؤلاء الفلاحسة يقولون : لقد سبق القرآن ، وأخبر بهذا في قوله تعالى : { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] . وقالوا : إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكّننا من اعتلاء سطح القمر ، وعجيب أن يقول هذا الكلام علماء كبار ، فأين القمر من السماء ؟ القمر ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض كمصر الجديدة بالنسبة للقاهرة ، ثم إنْ كان السلطان هنا هو سلطان العلم ، فماذا تقولون في قوله تعالى بعدها : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } [ الرحمن : 35 ] . لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة ، وبين علوم الكونيات ، وهذه آفة علماء الدين أنْ يتدخلوا فيما لا علمَ لهم به ، فالكونيات يُؤخَذ منها الدليل على عظمة الصانع وقدرته سبحانه ، إنما لا يُؤخذ منها حكم شرعي . ورأينا من هؤلاء مَنْ ينكر كروية الأرض ، وأنها تدور حول الشمس ، ومنهم مَنْ ظن أن علماء الكونيات - مع أنهم كفرة - يعلمون الغيب لأنهم توصَّلوا بحسابات دقيقة لحركة الأرض إلى موعد الخسوف والكسوف ، وجاء الواقع وَفْق ما أخبروا به بالضبط . وهذه المسألة - كما سبق أنْ قُلْنا - ليست من الغيب المطلق ، بل من الغيب الذي أعطانا الله المقدمات التي توصل إليه ، وقد توصّل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون ، ونفهم هذا في ضوء قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ … } [ فصلت : 53 ] . وهذه أيضاً من الآيات التي تُقدّم فيها أدلة السماوات والأرض على أدلة النفس . إذن : فالكونيات تُبنَى على علوم ودراسات ، لا دخلَ للدين بها ، الدين جاء ليقول لك : افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، ثم ترك الكونيات إلى أنْ تتسع العقول لفهمها . وقوله سبحانه : { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ … } [ الروم : 8 ] لأن السماوات والأرض وما بينهما من الكواكب والأفلاك تسير على نظام ثابت لا يتخلف ، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً ، وتأمل حركة الكواكب والأفلاك تجد أنها تسير وَفْق نظام دقيق منضبط تماماً . فالشمس لم تتخلف يوماً فتقول مثلاً : لن أطلع اليوم على هؤلاء الناس لأنهم ظالمون ، لأن لها قانوناً تسير به ، وهي مخلوقة بحق ثابت لا يتغير ، وما دامتْ هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك ، وأنت لا تضبط وقتك على ساعة إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة . لذلك يقول سبحانه : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] أي : مخلوقة بحساب ولأنه سبحانه خلقها بحساب جعلها آلة للحساب ، فقال : { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ * لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 39 - 40 ] . ويقول سبحانه : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ … } [ يونس : 5 ] وهل تعلمون بالقمر عدد السنين والحساب ، إلا إذا كان هو مخلوقاً بحساب ؟ ومع ذلك ، ومع أن الكون خلقه الله بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باقٍ لأن الله تعالى خلقه على هيئة الثبات لأجل { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى … } [ الروم : 8 ] فبعد أن ينقضي هذا الأجل الذي أجَّلَه الله تُكوّر الشمس وتنكدر النجوم ، وتُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات ، فالأمر ليس مجرد أنْ يتغير الشيء الثابت ، إنما يزول وينتهي . ثم يقول سبحانه { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } [ الروم : 8 ] كنا نجادل الشيوعيين نقول لهم : لقد بالغتم في تعذيب مخالفيكم من الإقطاعيين والرأسماليين ، وتعديتم في عقابكم ، قالوا : لأنهم ظلموا وأفسدوا في المجتمع ، فقلنا لهم : فما بال الذين ظلموا قبل هؤلاء وماتوا ولم ينالوا ما يستحقون من العقاب ؟ أليس من العدل أن تقولوا بدار أخرى يُعاقبون فيها على ما اقترفوه ؟ ألا يلفتكم هذا إلى ضرورة القيامة ، ووجوب الإيمان بها ؟ فمن أفلت من أيديكم في الدنيا عاقبه الله تعالى في الآخرة ، ثم أنتم تروْنَ مبدأ الثواب والعقاب في كل شيء ، فالذي أطلق لنفسه العَنان في الدنيا ، وسار فيها على هواه ، وعَاثَ في الأرض فساداً ، ولم تنلْه يد العدالة فهو الفائز إنْ لم تكُنْ له دار أخرى يُحاسَب فيها . إذن : فالإيمان بالآخرة وبلقاء الله ضرورة يقتضيها المنطق السليم ، ومع ذلك يكفر بها كثير من الناس { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } [ الروم : 8 ] . فالمؤمن يجب أن يكون على ثقة بهذا اللقاء لأن قوانين الأرض إنما تَحْمي من ظاهر المنكر ، وأما باطن المنكر فلا يعلمه إلا الله ، فلا بُدَّ من فترة يُعاقب فيها أصحاب باطن المنكر .