Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 9-9)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المعنى : أيكفرون بلقاء ربهم ولم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم - خُذْ فقط أمور الدنيا ، فهي كافية لمن اعتبر بها - فهؤلاء لم يسيروا في الدنيا ، ولم ينظروا فيها بعين الاعتبار بمَنْ سبقهم من الأمم المكذِّبة ، ولم يتعظوا بما وقع في الدنيا فضلاً عما سيقع في الآخرة . فإنْ كُنَّا صدَّقنا ما وقع للمكذِّبين في الدنيا وشاهدناه بأعيننا ، فينبغي أن نُصدِّق ما أخبر به الله عن الآخرة لأنك إنْ أردتَ أنْ تعلم ما تجهل فخُذْ له وسيلة مما تعلم . إذن : سيروا في الأرض ، وانظروا بعين الاعتبار لمصير الذين كذَّبوا ، وماذا فعل الله بهم ؟ والسَّيْر : قَطْع المسافات من مكان إلى مكان { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ … } [ الروم : 9 ] لكن أنسير في الأرض أم على الأرض ؟ هذا من دقة الأداء القرآني ، ومظهر من مظاهر إعجازه ، فالظاهر أننا نسير على الأرض ، لكن التحقيق أننا نسير في الأرض لأن الذي خلقنا وخلق الأرض قال : { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } [ سبأ : 18 ] . ذلك لأن الأرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء ، والتي نعيش عليها ، إنما الأرض تشمل كل ما يحيط بها من الغلاف الجوي لأنها بدونه لا تصلح للعيش عليها ، إذن : فغلاف الأرض من الأرض ، فحين نسير لا نسير على الأرض إنما في الأرض . والسير في الأرض نظر له الدين من ناحيتين : سير يُعَدُّ سياحة للاعتبار ، وسيْر يُعَدُّ سياحة للاستثمار ، فالسير للاعتبار أن تتأمل الآيات في الأرض التي تمر بها ، فالجزيرة العربية مثلاً صحراء وجبال يندر فيها الزرع ، فإنْ ذهبتَ إلى أسبانيا مثلاً تجدها بلاداً خضراء لا تكاد ترى سطح الأرض من كثرة النباتات بها . وفي كل منهما خيرات لأن الخالق سبحانه وزَّع أسباب الفضل على الكون كله ، وترى أن هذه الأرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشقُّ على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم الله خيرها من باطن الأرض ، فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي لا يُسْتغنى عنه يوماً واحداً في هذه البلاد ، وحينما قطعناه عنهم في عام 1973ضجُّوا وكاد البرد يقتلهم . حين تسير في الأرض وتنظر بعين الاعتبار تجد أنها مثل البطيخة ، لو أخذتَ منها قطاعاً طولياً فإنه يتساوى مع باقي القطاعات ، كذلك الأرض وزَّع الله بها الخيرات على اختلاف ألوانها ، فمجموع الخير في كل قطاع من الأرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الأخرى . الجبال التي هجرناها في الماضي وقُلْنا إنها جَدْب وقفر لا حياةَ فيها ، هي الآن مخازن للثروات وللخيرات قد اتجهت إليها الأنظار لإعمارها والاستفادة منها ، وانظر مثلاً إلى ما يحدث من نهضة عمرانية في سيناء . إذن : فالخالق سبحانه وزَّع الخيرات على الأرض ، كما وزَّع المواهب على الخَلْق ليظل الجميع مرتبطاً بعضه ببعض برباط الحاجة لا يستغني الناس بعضهم عن بعض ، ولا البلاد بعضها عن بعض ، وهنا لفتة إيمانية : أن الخلق كلهم عباد الله وصنعته ، والبلاد كلها أرض الله وملكه ، وليس لله ولد ، وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة ، فالجميع عنده سواء ، لذلك سبق أن قلنا : لا ينبغي لك أنْ تحقد على صاحب الخير أو تحسده لأن خيره سيعود عليك حتماً . ومعنى { ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ الروم : 9 ] أي : الأمم التي كذَّبَتْ الرسل ، وفي آية أخرى يوضح سبحانه عاقبة هؤلاء المكذبين : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] . ويخاطب سبحانه كفار قريش : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 - 138 ] . أي : في أسفاركم ورحلات تجارتكم تروْنَ مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب ما زالت شاخصة لكل ذي عينين . ويقول سبحانه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [ الفجر : 6 - 8 ] وكانوا في رمال الأحقاف { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } [ الفجر : 9 - 13 ] . لقد كان لكل هؤلاء حضارات ما زالت حتى الآن تبهر أرقى حضارات اليوم ، فيأتون إليها ليتأملوا ما فيها من أسرار وعجائب ، ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أنْ تحمي نفسها من الدمار والزوال ، وما استطاعت أنْ تمنع نفسها من عذاب الله حين حَلَّ بها ، إذن : لكم في هؤلاء عِبْرة . وكأن الحق سبحانه في قوله : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ الروم : 9 ] يقول لكفار قريش : أنتم يا مشركي قريش أقلّ الأمم ، لا قوةَ لكم ، ولا مال ولا حضارة ولا عمارة ، فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا مَنْ هم أقوى منكم ، إنما سبق أنْ أخذتم العهد في قوله سبحانه : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] . لذلك يقول بعدها : { كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا … } [ الروم : 9 ] فالأمم المكذِّبة التي أخذها الله وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم ، وأخصب أرضاً ، لذلك أثاروا الأرض . أي : حرثوها للزراعة وللإعمار ، وأنتم بواد ذي ذرع ، والحرث يُطلَق على الزرع كما في قوله سبحانه : { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ … } [ البقرة : 205 ] . ذلك لأن الأرض لا تنبت النبات الجيد إلا إذا أثارها الفلاح ، وقلَّبها ليتخلل الهواء تربتها ، فتجود عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي ، أما إنْ تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات ، فإنها تمسك النبات ولا تعطي فرصة للجذور البسيطة لأنْ تمتد في التربة ، خاصة في بداية الإنبات . وفي موضع آخر يقول - سبحانه وتعالى - عن النبات : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [ الواقعة : 63 - 64 ] . وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها ، قال لهم الحق سبحانه : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ … } [ البقرة : 71 ] . يعني : بقرة مُرفهة غير سهلة الانقياد ، فلا تُستخدم ، لا في حَرْث الأرض وإثارتها ، ولا في سَقْيها بعد أنْ تُحرَث لذلك تجد أن الفلاح الواعي لا بُدَّ أن يثير الأرض ويُقلِّب تربتها قبل الزراعة ، ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس ، ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها ، كما يقولون أيضاً : قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما لا تحتاج إليه . إذن : فهؤلاء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها . ومعنى { عَمَرُوهَا … } [ الروم : 9 ] أي : بما يسَّر الله لهم من الطاقات والإمكانات ، وأعملوا فيها الموهبة التي جعلها الله فيهم ، فاستخرجوا من الأرض خيراتها ، كما قال سبحانه : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا … } [ هود : 61 ] . وإعمار الأرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة ، إما بالزرع أو الغًرْس ، وإما بالبناء ، وإما بشقِّ الأنهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس ، ونُفرِّق هنا بين الزرع والغَرْس : فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلاً ، أما الغرس فما تغرسُه ، ويظل فترة طويلة يُدر عليك ، فمحصوله مُتجدِّد كحدائق الفاكهة ، والزرع يكون ببذْر الحبِّ ، أما الغرس فنبتة سبق إعدادها تُغرس . ثم يقول سبحانه : { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ … } [ الروم : 9 ] فبعد أنْ أعطاهم مقوِّمات الحياة وإمكانات المادة وطاقاتها ، وبعد أنْ جَنَوْا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم والدين ، فأرسل لهم الرسل { بِٱلْبَيِّنَاتِ … } [ الروم : 9 ] أي : الآيات الواضحات الدالة على صِدْق الرسول في البلاغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات . وسبق أنْ ذكرنا أن كلمة الآيات تُطلَق على معانٍ ثلاثة : آيات كونية دالة على قدرة الصانع سبحانه كالشمس والقمر ، وآيات تُؤيِّد الرسل وتُثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله وهي المعجزات ، وآيات القرآن التي تحمل الأحكام والمنهج ، وكلها أمور واضحة بينة . وقوله تعالى : { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ الروم : 9 ] نعم ، ما ظلمهم الله لأنه سبحانه أمدهم بمقوِّمات الحياة وإمكانات المادة ، ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم ، فإنْ حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إلا أنفسهم . ثم نقول : كيف يتأتَّى الظلم من الله تعالى ؟ الظلم يقع نعم من الإنسان لأخيه الإنسان لأنه يحقد عليه ، ويريد أنْ يتمتع بما في يده ، فالظالم يأخذ حقَّ المظلوم الذي لا قدرةَ له على حماية حقه . فكيف إذن نتصور الظلم من الله - عز وجل - وهو سبحانه مالك كل شيء ، وغني عن كل شيء ؟ إذن : ما ظلمهم الله ، ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق الله ومنهجه .