Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 12-12)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه آتانا قبل أنْ يخلقنا ، وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم وَالَى إلينا بمواكب الرسالات التي تحمل إلى كل بيئة المنهج الذي يناسبها ، وقبل أن يخرج آدم عليه السلام لتحمُّل عِبء هذه الخلافة أعطى الله له تجربة ، هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه في افعل و لا تفعل وأن يحذر كيد الشيطان . وقد مرَّ آدم بهذه التجربة البيانية قبل أن يجتبيه الله للنبوة وكثيرون يظنون أن عصيان آدم جاء بعد أن كُلِّف بالنبوة فيقولون : كيف يعصي آدم ربه ، وهو نبي والنبي معصوم ؟ ونقول : نعم ، عصى آدم ربه ، لكن قبل النبوة ، وهو ما يزال بشراً عادياً لذلك قال سبحانه في حقه : { وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } [ طه : 121 - 122 ] . إذن : جاء الاجتباء بعد المعصية ، فإنْ قلتَ : فما الداعي للعصيان يصدر من آدم ، وهو يُعد للنبوة ؟ قالوا : لأنه أبو البشر ، والبشر قسمان : بشر معصومون ، وهم الأنبياء ، وبشر ليست لهم عصمة وهم عامة الناس غير الأنبياء ، ولا بُدَّ لآدم أنْ يمثل النوعين لأنه أبو الجميع ، فمثَّل البشر عامة حين وقع في المعصية ، ومثّل الأنبياء حين اجتباه ربه وتاب عليه ، فجمع بذلك بين الملحظين . هنا يقول سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا … } [ لقمان : 12 ] والإيتاء يُطلَق على الوحي مع الفارق بينهما ، فإنْ أطلق الوحي فإنه ينصرف إلى الوحي للرسول بمنهج من الله ، ويُعرَف الوحي عامة بأنه إعلام بخفاء . ومن ذلك قوله تعالى في الوحي للملائكة : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ الأنفال : 12 ] . ويُوحِي للبشر ، قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ … } [ القصص : 7 ] . ويوحي للحيوان { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً … } [ النحل : 68 ] . ومن ذلك أيضاً يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من شياطين الإنس أو الجن : { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ … } [ الأنعام : 121 ] . كذلك يوحي الله إلى أهل الخير من أتباع الرسل : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي … } [ المائدة : 111 ] . هذا في المعنى اللغوي للوحي وهو : إعلام بخفاء ، فإنْ قصدت الوحي الشرعي الاصطلاحي : فهو إعلام من الله لرسوله بمنهجه . وهذا التعريف يُخرِج كل الأنواع السابقة . والحق سبحانه عبَّر عن الإيتاء العام بقوله : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ … } [ الشورى : 51 ] . والإيتاء يُقصد به الإلهام ، ويكون حين تتوفر للإنسان آلة استقبال سليمة صالحة لاستقبال الإلهام والخاطر من الحق سبحانه وتعالى ، وآلة الاستقبال لا تصلح للاستقبال عن الله تعالى إلا إذا كانت على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها ، كما يلتقط الراديو أو التليفزيون الإرسال ، فإنِ انقطع عنك الإرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب ، أما الإرسال فموجود لا ينقطع ، ولله تعالى المثل الأعلى . وله سبحانه إرسال دائم إلى عباده ، لا يلتقطه إلا مَنْ صفَتْ آلة استقباله ، وصلحت للتلقي عن الله ، وهذه الآلة لا تصلح إلا إذا كانت على المنهج في افعل ولا تفعل ، لا تصلح إذا تكونت من الحرام وتغذَّتْ به لأن الحرام يفسد كيماوية الفطرة التي خلقها الله في عباده يوم أن أخذ عليهم العهد : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ … } [ الأعراف : 172 ] . فهذه الذرية لو ظلتْ على حالها من الصفاء يوم كانت في ظهر آدم ويوم أخذ الله عليها العهد ، ولو التزمتْ منهج ربها في افعل و لا تفعل لكانت أهلاً لإلهام الله لأن آلة استقبالها عن الله سليمة . وتأمل في وحي الله إلى أم موسى : { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ … } [ القصص : 7 ] . فأيُّ آلة استقبال هذه التي استقبلتْ هذا الأمر ونفذته دون أنْ تناقشه ، واطمأنتْ إليه قبل أنْ تفكر فيه ؟ وكيف تقتنع الأم أن الموت المحقق يُنجي وليدها من موت مظنون ؟ لذلك نقول : إذا صادف الإلهام آلة استقبال سليمة فإنه لا يوجد في النفس ما يصادره ، ولا ما يبحث عن دليل ، فقامت أم موسى ونفذت الأمر كما أُلقي إليها ، هذا هو الإيتاء . ومنه أيضاً قوله تعالى : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] والعبد الصالح لم يكن نبياً ، ومع ذلك آتاه الله بدون واسطة ، فكان هو مُعلِّماً للنبي ، وما ذلك إلا لأنه عبد لله على منهج موسى ، وأخلص لله تعالى فآتاه الله من عنده . واقرأ قول الله تعالى : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] وقال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] إذن : كلُّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أنْ نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها الله لتظل بمواصفات خالقها ، ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ولا تفعل ، وكان سيدنا لقمان من هذا النوع الصافي الطاهر النقي ، الذي لم يخالط جسمه حرام ، والذي لا يغفل عن منهج ربه لذلك آتاه الله الحكمة ، وقال فيه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ … } [ لقمان : 12 ] . وقد اختلف العلماء فيه : أهو نبي أم غير نبي ، والغالب أنه غير نبي لأن القائلين بنبوته ليس لهم سند صحيح ، والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس ، دقيق الإدراك ، والحسّ كما قلنا هو الأصل الأول في المعلومات ، وكان لقمان لا يمر على الأشياء إلا بهذا الحسِّ المرهف والإدراك الدقيق العميق ، فتتكون لديه مُدْركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه ، فتتجمع لديه مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته ، فيسعد بها في نفسه ، بل ويسعد غيره من حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن ، كذلك كان لقمان . وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته ، فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ الشفتين كأهل جنوب إفريقيا ، لكنه مع ذلك كان أبيض القلب نقي السريرة ، تخرج من بين شفتيه الغليظتين الحِكَم الرقيقة والمعاني الدقيقة . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالوا : " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم " . لذلك حين ترى مَنْ هو أقل منك في مال ، أو صحة ، أو جاه ، أو منظر فلا تغتر بذلك ، وانظر وتأمل ما تميّز به عليك لأن الخالق سبحانه - كما قلنا - وزَّع فضله بين عباده بالتساوي ، بحيث يكون مجموع كل إنسان يساوي مجموع الآخر ، ولا تفاضلَ بين المجموعات إلا بالتقوى : " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح " . فالذين يحلو لهم أنْ يقسموا المهن مثلاً إلى مهن شريفة وأخرى حقيرة نقول : ليست هناك مهنة حقيرة ما دام المجتمع في حاجة إليها ولا تستقيم حركة الحياة إلا بها ، فكيف تحقرها ؟ وكيف تحقر أهلها ؟ والله لو قعد الوزراء في بيوتهم أسبوعاً ما حدث شيء ، لكن لو تعطل عمال النظافة مثلاً أو الصرف الصحي ليوم واحد لحدثتْ مشكلة ، ولأصبحت الدنيا خرارة . وكيف نحقر هذه المهن ونحقر أصحابها ، وهم يرضوْنَ باليسير ، ويتحملون ما لا يطيقه غيرهم ، كيف نحقرهم ، والله تعالى يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ … } [ الحجرات : 11 ] . فإن قلت : ما دام ليس نبياً ، فكيف يؤتيه الله ؟ نقول : بالمدد والإلهام الذي قال الله فيه : { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] فمَنْ يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق الله يأخذ من الله مباشرة . كما لو طلب منك ولدك مبلغاً من المال يتاجر به في السوق ، فتعطيه مبلغاً يسيراً تُجرِّبه به ، فإنْ أفلح وربحت تجارته يطمئن قلبك فتزيده أضعاف ما أخذ في المرة الأولى ، كذلك الإنسان إن أحسن صحبته لربه داوم الله عليه فضله ووالى إليه فيضه . لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز : ما قصر بنا في علم ما نجهل إلا عدم عملنا بما علمنا - يعني : لو كنا أهلاً للزيادة لزادنا ، لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظّفناه في حركة حياتنا لجاءتنا فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة لا تنتهي ، أما إنْ أخذنا العلم فألقيناه جانباً ولم نعمل به ، فما الداعي للزيادة ، وأنت لم تستفِدْ بما عندك ؟ وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته ، فسأله أحدهم وقد تبسَّط معه في الحديث : ألم تكُنْ عبداً تخدم فلاناً ؟ قال : بلى ، قال : فَبِمَ أوتيتَ الحكمة ؟ قال : باحترامي قدر ربي ، وأدائي الأمانة فيما وليت من عَمل ، وصدق الحديث ، وعدم تعرُّضي لما لا يعنيني . وهذه الصفات كافية لأنْ تكون منهجاً لكل مؤمن ، ولأنْ ينطق صاحبها بالحكمة ، والله لو كانت فيه صفة الصدق في الحديث لكانت كافية . لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد الأسود ، فآتاه الله الحكمة مباشرة ، وهو ليس نبياً ولا رسولاً ، وسُمِّيت إحدى سور القرآن باسمه ، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص في طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع ، فيكون له ذِكْر في مصافِّ الرسل والأنبياء . ويُرْوَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب مُضْغتين فيها ، فذبح الشاة وجاءه بالقلب واللسان ، وفي اليوم التالي قال له : اذبح لي شاة وأتني بأخبث مُضغتين فيها ، فجاءه أيضاً بالقلب واللسان فسأله : ألم تَأْتِ بهما بالأمس على أنهما أطيب مضغتين في الشاة ؟ قال : بلى فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا ، ولا شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا . وبعد لقمان جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا هذا الدرس فيقول : " … ألا أن في الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : " من حفظ ما بين لحييه وما بين رِجْليه دخل الجنة " . ويُروى أن لقمان كان يفتي الناس ، وكانوا يثقون بكلامه ، وكان ذلك قبل داود عليه السلام ، فلما جاء داود كفَّ لقمان عن الفُتْيا ، فلما سألوه : لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا ؟ فقال - وهذه أيضاً من حكمته : ألاَ أكتفي إذا كُفيت ؟ يعني : لماذا أتمسَّك بها وقد بعث الله لي مَنْ حملها عني ، وهو يعلم تماماً أنه مجرد عبد صالح أي : أنه أخذ الحكمة من منازلهم كما يقال ، أما داود فرسول من عند الله ، ومن الحكمة أنْ يُفسِح له هذا المجال ، ويترك له ساحة الفُتْيا في القوم لعله يأتي بأفضلَ مما عند لقمان لذلك تركها له عن رضاً وطيب خاطر . والبعض يقول : إن الله خيَّره بين أن يكون نبياً أو حكيماً ، فقال : أما وقد خيَّرتني يا رب ، فأنا أختار الراحة ، وأترك الابتلاء ، أما إنْ أردْتها يا رب عزمة فأنا سأقبلها سمعاً وطاعة لأني أعلم أنك لن تخذلني . والحق سبحانه يُنطِق لقمان بأشياء من الحكمة يسبق بها النبوة ليبين لنا أن الإنسان من الممكن أن يكون ربانياً ، كما جاء في الحديث القدسي : " عبدي ، أطعني تكُنْ ربانياً ، تقول للشيء كُنْ فيكون " . ذلك لأن فضل الله ليس له حدود ، وليس عليه حرج ، وبابه تعالى مفتوح ، المهم أن تكون أهلاً لأنْ تلِجَ هذا الباب ، وأنْ تكون في معية ربك دائماً . ومما يُرْوَى من حكمة لقمان أنه غاب في سَفْرة ، ثم عاد فلقيه تابعه ، فقال له : مَا حال أبي ؟ فقال : مات ، فقال لقمان : الآن ملكْتُ أمري ، ثم سأل : فما حال زوجتي ؟ فقال : ماتت ، فقال : جدّدتُ فراشي ، ثم سأل عن أخته ، فقال : ماتت ، فقال : ستَر الله عِرْضي ، ثم سأل عن أخيه ، فقال : مات ، فقال : انقصم ظهري . وهذا الكلام لا يصدر إلا عن حكمة ، فكثيراً ما يفرح الابن - خاصة العاق - بموت أبيه لأنه سيترك له المال يتمتع به ، أما لقمان فيقول عندما علم بموت أبيه : الآن ملكْتُ أمري لأنه في حياة أبيه كان له أمر ، لكن أمره ليس في يده إنما في يد أبيه ، فلما مات أبوه صار أمره بيده . وهذه الحكمة توضح لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت وما ملكت يداك لأبيك " كأنه من العيب أن تقول في حياة أبيك : أنا أملك كذا وكذا . أما الآن فقد تجاوز الأبناء كل هذه القيم ، ونسمع الابن يقول لأبيه : اكتب لي كذا وكذا . أما قوله : " جددت فراشي " فهي كلمة لها معنى كبير : أنا لا أُدخِل الجديدة على فراش القديمة حتى لا أجرح مشاعرها ، أو أنني لا أتزوج إلا بعد وفاة زوجتي الأولى ذلك لأن الغيرة طبع في النساء . وكانت أم المؤمنين عائشة تغار حتى من ذكر السيدة خديجة ، فقد " دخلت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم على أبيها مُغْضبة فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أغضبك يا أم أبيها " فقالت : والله إن عائشة قالت لي : إن رسول الله تزوج أمك ثيباً ، ولم يتزوج بِكْراً غيري ، فقال لها رسول الله : " إذا أعادت عليك هذا القول - وانظر هنا إلى أدب النبوة في الردَّ وفي سرعة الخاطر - فقولي لها : ولكن أمي تزوجتْ رسول الله وهو بكر ، وتزوجتيه أنت وهو ثيَّب " هذا كلام النبوة ، ومن بعدها لم تُعِدْها عائشة مرة أخرى . وقد يقول قائل : وكيف تغار عائشة ، وهي أم المؤمنين وزوج رسول الله ؟ قالوا : هذه الغيرة لها معنى ، فقد عقد رسول الله عليها وهي بنت السادسة ، ودخل بها وهي بنت التاسعة ، وقد جاوز صلى الله عليه وسلم الخمسين من عمره ، ومع فارق السن بينهما رضيتْ عائشة برسول الله لأنها رأتْ فيه من مزايا نوره ما جعلها تَغَار عليه رغم كِبَر سنّه وصِغَر سنها ، فلم تنظر إليه على أنه رجل عجوز يكبرها ، بل رأَتْ فيه ما يفوق ويعلو على مجرد الشباب . إذن : فمعنى : " جددت فراشي " أنني أراعي مشاعر الزوجة الجديدة ، فلا أُدِخلها على فراش القديمة فأصدمها به ، وأُلِهب مشاعر الغيرة عندها ، حتى من التي ماتت ، وأنا أريد أن تكون صافية التكوين لذاتي ، راضية عن كل تصرفاتي ، أريد أن أمنع كل شبهة تقلق كونها سكناً لي ، وأنا سَكن لها . نعود إلى قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ … } [ لقمان : 12 ] فالذي آتى هو الله عز وجل ، والحكمة : مادة حكَم تدل على وَضْع الشيء في موضعه ، ومنها الحاكم لأنه يضع الحق في نصابه ، حتى في الدواب نسمي الحديدة التي توضع في فم الفرس لأتحكم في حركته حَكَمه لأن الهدف من ركوب الخيل مختلف ، فمرة أركبه للنزهة ، ومرة أركبه لأدرك به صَيْداً ، ومرة للكِّر وللفرِّ في المعركة ، فكُلُّ هدف من هذه له حركة ، وينبغي أنْ أتحكم في حصاني ليؤدي لي ما أريده منه . إذن : فالحكمة تعني في معناها العام وَضَع الشيء في موضعه ، وهي مجموعة من مَلَكات الفضائل تصدر عنها الأشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيُسْر وبلا مشقة ولا تعب ، كالشيخ الذي ظل يدرس في الأزهر مثلاً عشرين أو ثلاثين سنة تذهب إليه ، وتستفتيه في أمر من الأمور ، فيجيبك بيُسْر وسهولة ، وبدون تفكير أو إعداد ، لماذا ؟ لأن الفُتْيا أصبحت ملَكَه عنده لا تحتاج منه إلى مجهود ولا مشقة . ومن الحكمة أنْ يخلق الله لك أشياءً ، ويهديك لأنْ تستنبط منها أشياءً أخرى . وساعة تسمع من الله تعالى : { وَلَقَدْ … } [ لقمان : 12 ] فاعلم أن هنا قَسَماً فالواو واو القسم ، والمقسَم عليه مُؤكَّد باللام ومُؤكَّد بقد التي تفيد التحقيق . قوله سبحانه : { آتَيْنَا … } [ لقمان : 12 ] الحق - سبحانه وتعالى - في إتيانه للأشياء يعني تعدَّي ما قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور . وقبل أنْ يخلق الله الإنسان خلق له ، فجاء الإنسان الأول آدم عليه السلام وطرأ على كون فيه كل مُقوِّمات حياته من هواء وماء وأرض وسماء وطعام وشراب … الخ . وكل ذلك مُسخَّر له تسخيراً لا دَخْلَ للمنتفع به فيه ، وهذا أول الإيتاء ، بل قبل ذلك ، وفي الأزل قبل أن يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات مادته ومُقوِّمات قيمه وروحه - أي : أوجدها . لأننا نعلم أن كل صانع قبل أن يُقدِم على صَنْعة لا بُدَّ أن يُحدِّد الغاية ، ويضع الهدف منها أولاً ، لا أنْ يصنع الشيء ثم ينظر فيه : لأيِّ شيء يصلح هذا الشيء ، كذلك لا بُدَّ أنْ يسبق الصنعةَ منهجُ صيانتها . فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان وضع له مُقوِّماته المادية والمعنوية ، والمنهج الذي يُصلِحه وحدّد الهدف من وجوده لذلك يُنبِّهنا الحق سبحانه إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } [ الرحمن : 1 - 3 ] فقبل أنْ يخلق الله الإنسانَ وضع المنهج الذي به صيانته ، وهو القرآن الكريم . إذن : فمعنى الإيتاء أنْ يعدي الله ما قدره من خير ظاهر أو خير مستور لمن قدره ، والخير يكون على نوعين : خير يقيم المادة ، وخير يقيم القيم الروحية ، المادة تقوم بالهواء وبالطعام وبالشراب … الخ ، والقيم تقوم بالوحي وبالمنهج الذي حمله الرسل بافعل ولا تفعل . والله تعالى آتى كثيراً من خلقه ، فلماذا خَصَّ لقمان بالذات ، فقال { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ … } [ لقمان : 12 ] ؟ قالوا : لأن الله تعالى حين يأمر الرسل بأمر ليُبلِّغوه يُعِد الرسل لهذا الأمر ، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يقول لنا ، إن الفَطرة السليمة تهتدي إلى الله ، وإلى المطلوب من الله بدون وحي ، وبدون إعداد . ومن ذلك ما رُوِي عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - من أنه كان يُحدِّث سيدنا رسول الله بالأمر ، ويقترح عليه فيأتي الوحي موافقاً لرأيه ، فكيف يتسنى لعمر أن يقترح على رسول الله وفي وجوده ، وهو المشرع الثاني بعد القرآن ؟ نقول : لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة إذا صَفتْ لله تستطيع أنْ تهتدي إلى الأشياء ، وتصل إلى الحق قبل أنْ ينزل الوحي به . إذن : فالإيتاء من الله لا يأتي عبثاً ، فالإيتاء الأول كان لآدم عليه السلام ، وآدم شاء الله أنْ يجعله خليفة له في الأرض ، ولا يعني هذا أنه أول المخلوقات في الأرض ، والحق سبحانه لم يَقُلْ إنني أول ما خلقتُ خلقتُ آدم ، وبدليل قوله تعالى : { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] . ومسألة الخلْق هذه هيِّنة على الله ، بدليل قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19 - 20 ] فالمسألة ليست نادرة حدثت مرة واحدة ، ولن تحدث بعد ذلك . وللعلماء كلام طويل في عوالم أخرى غير عالمنا كعالم الحن ، وعالم البنِّ ، وعالم الجن وغيرها مما لا يعلمه إلا الله ، لكن إنْ حدَّثك المضللون الذين يريدون أنْ يستدركوا على الدين ويقولون : إن الحفريات أثبتت وجود مخلوقات قبل آدم ، فكيف تقولون : إن آدم أول مخلوق ؟ ونقول لهؤلاء : لم يقُلْ أحد : إن آدم أول مخلوق على الأرض ، إنما هو أول هذا الجنس البشري الذي نسميه " إنسان " لكن سبقته أجناس أخرى ، وشاء الله أنْ يجعل آدم خليفة في الأرض ، ثم أخبر الملائكة { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً … } [ البقرة : 30 ] . والله حين يخبر الملائكة هذا الخبر لا يستشيرهم ، إنما ليبين لهم أمراً واقعاً ، وخصَّ الملائكة بهذا الإخبار لأنه سيكون لهم دور مع هذا الخليفة الجديد . إذن : فالذين قال الله لهم : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً … } [ البقرة : 30 ] ليسوا كل الملائكة ، إنما الذين لهم دور ومهمة مع هذا المخلوق ، أما باقي الملائكة فلا يدرون بآدم ، ولا يعرفون عنه شيئاً ، وليس في بالهم إلا الله . والقرآن الكريم يشير لنا إلى هذه المسألة إشارةً دقيقة في قوله تعالى مخاطباً إبليس لما رفض السجود لآدم : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] والعالون هم الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود . وقلنا : إن الله تعالى كرَّم آدم حين خلقه تعالى ، وباشر خَلْقه بيده سبحانه ، ولم يخلقه كباقي المخلوقات بكُنْ لذلك جاء في حيثية النقد على إبليس : { قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ … } [ ص : 75 ] . إذن : مباشرة الخَلْق باليد دليل على العناية بالمخلوق لأن اليد هي الآلة الفاعلة لأكثر الأشياء ، وحتى الآن نفخر بعمل اليد فنقول هذا الشيء يدويّ يعني : لم تصنعه آلة صماء ، إنما يد مفكر يتقن الصنعة . وفي مسألة خَلْق آدم - عليه السلام - يحلو للبعض أن يقول : هو الذي أخرجنا من الجنة ، فهل قال الله تعالى قبل أن يصدر أول بيان عن آدم أنني خلقُته للجنة ، ثم عصى آدم ربه وتسبب في أنْ نخرج منها ؟ لم يقُلْ ذلك ، إنما قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً … } [ البقرة : 30 ] فهو - إذن - مخلوق للأرض ، وما الجنة التي دخلها إلا جنة التجربة لا جنة الخلد ، والبعض يظن أن كلمة الجنة إذا أُطلقَتْ تعني جنة الآخرة ، وهذا خطأ بدليل قول الله تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [ القلم : 17 ] . وقوله تعالى : { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ … } [ الكهف : 32 ] . فالجنة في اللغة هي المكان المليء بالأشجار الكثيفة التي تستر مَنْ يسير فيها ، كما تستره أيضاً عن البيئة الخارجية لأنها تكفيه بما فيها عن الاحتياج إلى غيرها ، فبها كل مُقوِّمات الحياة ، ومن ذلك الجنة التي دخلها آدم لأن الله تعالى أراد أنْ يصنع لآدم تدريباً على مهمة الخلافة ، ولم لا ونحن نُدرِّب كل صاحب مهمة على مهمته قبل أنْ يقوم بها ، حتى لاعب الكرة . وحين نأخذ المتدرب لندربه على أداء مهمته لا بُدَّ أن نوفر له كل مُقوِّمات حياته ، ونتكفل له بكل ما يعينه على أداء مهمته ، فنقدم له إقامة كاملة من طعام وشراب ومسكن … إلخ وكذلك فعل الله تعالى لآدم فقال له { يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [ البقرة : 35 ] . وحين نقارن بين ما أباحه الله لآدم وما حظره عليه نجد أنه تعالى أباح له كُلَّ ما في الجنة ولم يحرم عليه إلا هذه الشجرة التي أوضحها وبيَّنها له . كما نلحظ قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبَا … } [ البقرة : 35 ] ولم يقُلْ : لا تأكلا لأن القرب من الشيء قد يُغرِي بمزاولته ، فاحتطْ أنت لنفسك بعدم القرب منه . وهذا التدريب لآدم فيه إشارة رمزية لكل تكليف من الله لخَلْقه في افعل و لا تفعل . ثم يذكِّر الحق سبحانه آدم بالمقدمة العدائية التي حدثتْ بينه وبين إبليس ، وينصحه بأنْ يحذر هذا العدو لأنه أبى أنْ يسجد له لما أمره الله بالسجود استكباراً وعُتواً . والله حين يأمر بالسجود لآدم إنما يريد السجود للأمر والانصياع له ، لا السجود لآدم في ذاته لذلك نجد الأمر من الله تعالى يختلف باختلاف المأمورين ، فمرة ينهى عن شيء ويأمر بمثله ليرى مدى انضباطك للأمر وللنهي . ففي الحج مثلاً ، يأمرك أنْ تُقبِّل حجراً ، وأنْ ترمي حجراً آخر وترجمه ، وهذا حجر وذاك حجر ، إذن : فالحجرية غير منظورة ، لكن المنظور فيه إلى الأمر أو النهي . وبصرف النظر عن المصلحة أو الحكمة من الأمر أو النهي ، فمثلاً حينما يتعذر الماء يشرع التيمم بدلاً من الوضوء ، فيأتي مَنْ يقول : الوضوء للنظافة ، فما النظافة في التيمم ، وهو يُلوِّث الجسم ؟ ونقول : فَرْق بين النظافة والتطهير ، والمراد من التيمم التطهير بشيء هو أصل في مادتك وتكوينك ، فالمسألة انضباط في طاعة الأمر بأن تفعل شيئاً تجعله مقدمة لصلاتك ، كأنك لا تُقبل على الصلاة إلا بتهيئة ، وأيضاً لأن الصلاة بها قِوامَ روحك وحياتك ، وحياتك في الأصل ومادتك من الماء الذي تستخدمه في الوضوء والتراب الذي تستخدمه في التيمم . إذن : لهاتين المادتين رمزية يجب أن تُلحظ في الدخول على الله في الصلاة ، ولا يليق بالمؤمن أنْ يُفلسف أمور العبادات ويبحث عن عِلّتها والحكمة أو المصلحة من أدائها ، إنما يكفي أن يقول : عِلَّة هذا الأمر أن الله أمر به أنْ يفعل ، وعلة هذا الحكم أن الله أمر به ألاَّ يُفعل . لذلك ورد عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال : لو كانت المسألة بالعقل لكان أسفل الخُفِّ أوْلَى بالمسح من أعلاه ، إذن : المسألة طاعة والتزام للأمر وللنهي لذلك من غير المناسب أن نقول : إن من حكمة الصوم : أنْ يَشعر الغني بألم الجوع ، فيعطف على الفقير لأنني سأقول لك إذن : لماذا يصوم الفقير ؟ ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً وما زْلنا نكرره . قلنا : إن أعز شيء على المرء صحته ، فإنْ أصابته علة ، فأول ما يُعمِل عقله يبحث عن الطبيب المتخصص في مرضه فيذهب إليه ، ثم يسلم له نفسه ليفحصه ، ثم يكتب له الدواء فيأخذه ويتناوله دون أنْ يسأل عن عِلَّته ، أو لماذا وصفه الطبيب ، لماذا ؟ لأن الطبيب مؤتمن بعد أنْ تعلَّم ودرس وتخصَّص ، فأنت لا تسأله ولا تناقشه : لماذا كتب لك هذا الدواء ، وهو مع ذلك إنسان وعُرْضة للخطأ وللسهو وللنسيان ، ومع ذلك لا يناقش . إذن : علة تناول الدواء أن الطبيب وصفه لي ، وعلة كل أمر عند الآمر به . والآمر في العبادات هو الحق - سبحانه وتعالى - فلا يليق بالمؤمن بعد أن آمن بالله وبحكمته وقدرته أنْ يبحث ليعلم الحكمة من كل أمر يأتيه من ربه عز وجل . نعود إلى آدم - عليه السلام - وأن الجنة التي دخلها كانت للتدريب والتجربة ولم تكُنْ جنة الخلد ، تدرَّب فيها آدم على : كل افعل وعلى : لا تقرب لا تفعل واحذر الشيطان فإنه عدو لك ، وسوف يوسوس لك ، ويغويك لأنه لا يريد أنْ يكونَ عاصياً وحده ، يريد أنْ يجرَّك معه إلى حمأة المعصية . وظل آدم وزوجته يأكلان كما قال تعالى من الجنة رغداً حيث شاءا ، دون أنْ يقربا هذه الشجرة التي بيَّنها الله لهما إلى أنْ وسوس لهما الشيطان وأغراهما بالأكل منها ، مع أن الله تعالى حذَّرهما ، وأعطاهما حقنة مناعة ضد الشيطان ووسوسته ، ومع ذلك حدثتْ من آدم الغفلة . وهذه الغفلة الله يُنبِّه بها ذرية آدم من بعده : أن الشيطان لن يدعكم ، وسوف يدخل عليكم بألاعيبه وحيله ، كما دخل على أبيكم آدم ، فكونوا منه على حذر ، وابحثوا بعقولكم ما يلقيه إليكم من وساوس . بالله ماذا قال إبليس لآدم حين أغواه بالأكل من الشجرة ؟ قال : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] . أليس من المنطق أن نقول : ولماذا لم تأكل أنت منها يا إبليس فتصير مَلَكاً ، وتصير من الخالدين ، ولا تتمحك فتقول : { فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الحجر : 36 ] إذن : كان على آدم أنْ يتنبه إلى مكايد الشيطان وألاعيبه . ثم يُنبِّهنا - سبحانه وتعالى - من خلال هذه القصة إلى أن الشيطان سيأتينا في مقام الطاعة ، فلو أن آدم وزوجه ذهبا إلى هذه الشجرة وأكلا منها ما وسوس لهما ، فهذا دليل على أنهما احتاطا للأمر ، فلم يقربا من الشجرة تنفيذاً لأمر الله لذلك تدخَّل الشيطان . إذن : نقول إن الشيطان لا يتدخل إلاّ في مجال الطاعة ، أما المعصية فصاحبها كفاه مؤنة الوسوسة ، الشيطان يذهب إلى المسجد لا يذهب إلى الخمارة لأن الذي يذهب إلى الخمارة صار شيطاناً في ذاته ، فما حاجته لإبليس ؟ لذلك يقول تعالى حكاية عن إبليس : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] أي : في مواضع الخير وطرق الصلاح والهداية لأبطل أعمالهم ، وأفسد عليهم أمرهم ، ونحن نلحظ ذلك في صلاتنا مثلاً ، فقد تنسى شيئاً ، وتحاول أن تتذكره فلا تستطيع ، وفجأة وأنت تصلي تتذكره . فلو أننا أخذنا الروشتة من خالقنا عز وجل وبمجرد أنْ ينزغنا الشيطان نقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتنبّه الشيطان ، وعلم أننا لسنا في غفلة ، وأننا نكشف ألاعيبه ، ونعرف حيله وصدق الله العظيم حين قال : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ … } [ الأعراف : 200 ] . وقد وصف الله الشيطان بأنه خنّاس ، يعني : إذا ذُكِر الله خنس وتضاءل ، فإنْ جاءك هذا الخاطر الشيطاني - حتى وإنْ كنتَ تقرأ القرآن - قُلْ بجرأة وقوة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليعلم أن ألاعيبه لا تخفى عليك فينصرف عنك ، أما أن تخضع له فإنه يعطيك فقط طرف الخيط ، ويفتح لك باباً يشغلك به ، ثم يتركك أنت تكُرُّ هذا الخيط من نفسك ، ويذهب هو يستغفل واحداً غيرك . والشيطان رغم عِلْمه ، إلا أن فيه تغفيلاً بدليل أنه أعلن عن خطته ، وأظهر لنا مكايده قبل أنْ يكيدنا بها ، فقال : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] وقال { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ … } [ الأعراف : 17 ] ، فالذي يدبر المكايد ويتآمر على غيره لا يعلن عن مكايده مُقدماً ، ونحن أيضاً كان علينا أنْ نحذر هذه المكايد خاصة ، وقد أعلن عدونا عنها . ولك أنْ تلحظ في خطة إبليس أنه يأتيك من جهاتك الأربع ، ومعلوم أن الجهات ست ، فلماذا لم يذكر فوقنا وتحتنا ؟ قالوا : لأن هاتين الجهتين محلُّ نظر إلى الله عز وجل ، فالعبد ينظر إلى عِزِّ الربوبية في عليائه وذُلِّ العبودية إذا اتجه في سجوده إلى أسفل . إذن : فأنت في معية ربك في هاتين الجهتين ، والشيطان لا ينال منك إلا وأنت بعيد عن معية ربك . ومثَّلْنا لذلك ، ولله المثل الأعلى قلنا : إن الغلام إذا كان يسير في يد أبيه وفي صحبته ، لا يجرؤ أحد من أمثاله على الاعتداء عليه ، إنما إنْ سار وحده فهو عُرْضة للإيذاء . وهذا دليل على علم إبليس وعلى ذكائه ، ونلحظ هذا أيضاً في قوله : { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] كأنه يقول لربه : أنا لا أقترب من عبادك الذين هم في حضانتك ، وفي معيتك . والتغفيل الأكبر في إبليس أنه مع علمه بمقام ربه يتمرد على أمره ، حين يأمره بالسجود فلا يسجد . إذن : نبَّه الله تعالى آدم وحذره من كيْد إبليس ، وكان عليه أنْ يحذر وألاَّ تدخل عليه حيلة الأكل من الشجرة إلا أنه في غفلة منه عن أمر ربه أكل من الشجرة ، فلما خالف الأمر اختلفتْ طبيعته ، وبدَتْ له ولزوجه السَّوْءة ، وكانت المرة الأولى التي يشعر فيها آدم بعورته عند خروج الغائط . لكن ، ما الفرق بين فتحة دخول الطعام الفم وفتحة خروجه ؟ ولماذا أصبحت هذه عورة ، وهذه غير عورة ؟ قالوا : لأن آدم حال طاعته لأمر ربه في الأكل من ثمار الجنة كان يأكل بطهي ربه ، وهو طهي بحكمة وبقدر معلوم ، يكفي مقومات الحياة ولا يزيد عنها ، لذلك لم يَبْق في بطن آدم فضلات ، ولم توجد عنده غازات أو أرياح ، فلم يشعر في هذه الحالة بحاجة إلى التغوط ، فكانت الفتحتان متساويتين ، هذه فتحة ، وهذه فتحة . فلما خالف آدم ربه وذاق الشجرة اختلفتْ الأغذية في بطنه ، وحدث لها تفاعلات ، ونتج عنها فضلات وأرياح ، ولما أحسَّ بها آدم نفر منها وأصابه الخجل ، وشعر أنها عورة ينبغي أنْ تُستر ، فالطبع السليم لا بُدَّ أنْ ينفر منها لذلك أخذ يزيل هذا الأذى عن نفسه ، ويستره بأوراق الشجر ، ومنذ ذلك الحين لم يستطع آدم أن يسدَّ هذه الفتحة ، ولن تُسدَّ . إذن : الحق سبحانه جعل الدُّرْبة لآدم في الجنة هذه ، وهيَّأ له فيها طعامه ، ونهاه عن نوع بعينه ، فأمره ونهاه وعلَّمه وحذَّره ، فلما وقع في المخالفة وأغواه الشيطان ، ولم يعمل بنصيحة ربه أخرجه إلى الأرض بهذه التجربة ، لتكون رمزاً له ولذريته من بعده : إنْ سِرْتَ على منهجي ووِفْق أوامري في افعل و لا تفعل فلن تجد عورة في الكون كله ، ونحن نرى ذلك فعلاً في حركة حياتنا في الكون ، فلا نرى عورة في المجتمع ولا خللاً إلا إذا خُولِفَتْ أوامر الله . هذا هو الإتيان الأول ، بعد ذلك قدَّر الله غفلة البشر ، فأرسل إليهم الرسل بالمنهج ، فكان إتيان آخر ، كما قال تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] وقال في عيسى عليه السلام : { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } [ الحديد : 27 ] . وهذا الإيتاء من الله يتم في خفاء لذلك يُسمونه وحياً ، وهو من الغيبيات ، فالله تعالى لا يمدُّ يده فيعطي النبي أو الرسول شيئاً حسِّياً ، ومن هنا ارتبط الإيمان بالغيبيات دون المحسَّات ، فأنا لا أقول مثلاً : آمنتُ بأنني قاعد في مسجد الشيخ سليمان وأمامي جَمْع من الإخوة … الخ . إذن : لا بُدَّ أنْ يكون الإيمان بأمر غيبي . الحق - سبحانه وتعالى - يُؤتِى على توالي العصور أنبياءه معجزات ، ويؤتيهم منهجاً يسوس حركة الحياة ، ولا يقتصر إيتاء الله على الرسل ، إنما يؤتى غير الرسل ، ويؤتى الحيوان … الخ . ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجاً للحكمة التي آتاها لقمان : { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ … } [ لقمان : 12 ] هذه هي الحكمة الأولى في الوجود لأنك إنْ شكرتَ الله على ما قدَّم لك قبل أنْ توجد ، وعلى ما أعطاك قبل أن تسأل ، وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم ، كأنه تعالى يقول لعباده : ناموا أنتم فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم . فإن شكرك لله يهدم أول لبنة من لبنات الاغترار ، فالذي يفسد خلافة الإنسان في الأرض أنْ يغترَّ بما أعطاه الله وبما وهبه ، وينسى أنه خليفة ، ويعتبر نفسه أصيلاً في الكون ، والشكر لله تعالى يكون على ما قدَّم لك من نعم . ومن ذلك قوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] أي : تشكر الله على ما سبق ، فقد وُلدتَ لا تعلم شيئاً ، ثم تكونت عندك آلات الإدراك والعلم ، فعلمتَ وملأت قلبك بالمعاني الجميلة لذلك تشكر الله عليها ، فجَعْل هذه الآلات لك ، عِلَّته أنْ تشكر أي : على ما مضى . ثم هناك شكر آخر ، لا على ما فات ، لكن شكر هو في ذاته نعمة جديدة ، وتأمل في ذلك قول الله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ … } [ الروم : 46 ] هذه كلها نِعَم يعطف عليها بقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ الروم : 46 ] . فعطف الشكر على النعم السابقة يعني أنه في ذاته نعمة ، وإلا لقال كما في الآية السابقة { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . والشكر بهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] فهذا شكر لما سبق ، وهذا شكر لما هو آتٍ . والشكر في قوله تعالى : { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ … } [ لقمان : 12 ] مُوجه إلى الله تعالى ، فكيف إذا توجه الشكر في أسباب تناوله إلى غير الله ، كأنْ تشكر صاحبك الذي قدم لك معروفاً مثلاً ؟ قالوا : لو تأملتَ شكر غير الله ممن قدَّم لك معروفاً يستوجب الشكر لوجدته يؤول إلى شكر الله في النهاية . لذلك قالوا : لا تشكر الله إلا حين تشكر مَنْ ساق لك الجميل على يديه ، يعني : جعله سبباً في قضاء حاجتك ، ثم إن الذي قدَّم لك جميلاً ، ما قدّمه لك وما آثرك على نفسه إلا لأن الله أمره بذلك ، ودعاه إليه . وأثابه على فعله ، فإذا سلسلتَ الشكر لانتهى إلى شكر الله تعالى . ثم يقول سبحانه : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ لقمان : 12 ] علمنا أن الشكر لله هو أول الحكمة ، فلماذا ؟ لأن مَنْ يشكر تعود إليه ثمرة شكره . وإياك أن تظن أن من مقومات قيومية ربك أنْ تشكره ، فشكْرك وعدمه سواء بالنسبة لله تعالى ، كيف وقد وسِع سبحانه الكافر الذي كفر به ، ولم يقطع عنه نعمه ذلك لأنه سبحانه غني عن خَلْقه { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ لقمان : 12 ] لأنه سبحانه يعرف أنه رب ، حتى للكافر الجاحد . ونلحظ في الأسلوب هنا عظمة وروعة ، ففي الشكر قال سبحانه { وَمَن يَشْكُرْ … } [ لقمان : 12 ] أما في الكفر فقال : { وَمَن كَفَرَ … } [ لقمان : 12 ] ولم يقل : ومَنْ يكفر ، وفَرْق بين الأسلوبين ، والكلام هنا كلام ربٍّ ، ففي الشكر جاء بالفعل المضارع { يَشْكُرْ … } [ لقمان : 12 ] الدال على الحال والاستقبال ، فالشكر متجدد ودائم على خلاف الكفر . وكأنه - سبحانه وتعالى - لا يريد من عبده الدوام على كفره ، فلعله يتوب ويرجع إلى ساحة الإيمان ، فجاء بالفعل الماضي { كَفَر … } [ لقمان : 12 ] أي : في الماضي فحسب ، وقد لا يعود في المستقبل ، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم . ومعنى { حَمِيدٌ } [ لقمان : 12 ] من صيغ المبالغة على وزن " فعيل " وتأتي مرة بمعنى " فاعل " مثل رحيم ، ومرة بمعنى " مفعول " مثل قتيل أي : مقتول ، والمعنى هنا { حَمِيدٌ } [ لقمان : 12 ] أي : محمود وجاءت هذه الصفة بعد { غَنِيٌّ … } [ لقمان : 12 ] لأن الكافر لو كان يعلم أن الله لم يقطع عنه نعمه رغم كفره به لحمد هذا الإله الذي حلم عليه ، ولم يعامله بالمثل . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ … } .