Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 20-20)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
التسخير : هو الانقياد للخالق الأعلى بمهمة يؤديها بلا اختيار في التنقُّل منها ، كما سخر الله الشمس والقمر … إلخ ، فعلى الرغم من أن كثيراً من الناس منصرفون عن الله وعن منهج الله لم تتأبَّ الشمس في يوم من الأيام أنْ تشرق عليهم ، ولا امتنع عنهم الهواء ، ولا ضنَّتْ عليهم الأرض بخيراتها ولا السماء بمائها ، لماذا ؟ لأنها مُسخَّرة لا اختيارَ لها . ولا نفهم من ذلك أن الله سخَّر هذه المخلوقات رغماً عنها ، فهذا فهم سطحي لهذه المسألة ، حيث يرى البعض أن الإنسان فقط هو الذي خُيِّر ، إنما الحقيقة أن الكون كله خُيِّر ، وهذا واضح في قول الله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . إذن : فالجميع خُيِّر ، خُيِّرت السماوات والأرض والجبال فاختارت أن تكون مُسخَّرة لا إرادةَ لها ، وخُيِّر الإنسان فاختار أنْ يكون مختاراً لأن له عقلاً يفكر به ويقارن بين البدائل . ومعنى التسخير أنك لا تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الأشياء في الكون بعقلك ولا بإرادتك ولا بالمنهج ، والدليل على ذلك أنك إذا صِدْتَ طيراً وحبسته في قفص ومنعته من أنْ يطير في السماء وتريد أن تعرف : أهو مُسخَّر لك أم غير مسخر وحبسه حلال أم حرام ؟ فافتح له باب القفص ، فإنْ ظلَّ في صحبتك فهو مُسخَّر لك ، راضٍ عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعددتَهُ له ، وإنْ خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مُسخَّر لك ، ولا يحقُّ لك أن تستأنسه رغماً عنه . لذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - لما مَرَّ بغلام صغير يلعب بعصفور أراد أنْ يُعلِّمه درساً وهو ما يزال عجينة طيِّعة ، فأقنعه أنْ يبيعه العصفور ، فلما اشتراه عمر وصار في حوزته أطلقه ، فقال الغلام : فو الله ما قَصَرْتُ بعدها حيواناً على الأنس به . وسبق أنْ تكلمنا عن مسألة التسخير ، وكيف أن الله سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي الصغير ولم يُسخِّر لك مثلاً البرغوث فلو لم يُذلِّل الله لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما استطعت أنت تسخيرها بقوتك . وقوله تعالى : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً … } [ لقمان : 20 ] أسبغ : أتمّ وأكمل ، ومنها قوله تعالى عن سيدنا داود : { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ … } [ سبأ : 11 ] أي : دروعاً ساترة محكمة تقي لابسها من ضربات السيوف وطعنات الرماح ، والدروع تُجعل على الأعضاء الهامة من الجسم كالقلب والرئتين ، وقد علَّم الله تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع ، ليست ملساء ، إنما فيها نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة ، ولا تتزحلق فتصيب مكاناً آخر . ورُوِي أن لقمان رأى داود - عليه السلام - يعجن الحديد بين يديه فتعجب ، لكنه لم يبادره بالسؤال عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع ، فأخذه ولبسه وقال : نِعْمَ لَبُوس الحرب أنت ، فقال لقمان : الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان . فمعنى أسبغ علينا النعمة : أتمها إتماماً يستوعب كل حركة حياتكم ، ويمدكم دائماً بمقوِّمات هذه الحياة بحيث لا ينقصكم شيء ، لا في استبقاء الحياة ، ولا في استبقاء النوع لأن الذي خلق سبحانه يعلم كل ما يحتاجه المخلوق . أما إذا رأيتَ قصوراً في ناحية ، فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات الكون ، أو استنبطوا خيرات الكون ، لكن بخلوا بها وضنُّوا على غيرهم ، وهذه هي آفة العالم في العصر الحديث ، حيث تجد قوماً قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الاستنباط ، وآخرين جدُّوا ، لكنهم بخلوا بثمرات جدهم ، وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى ألقَوْها في البحر ، وأتلفوها في الوقت الذي يموت فيه آخرون جوعاً وفقراً . إذن : فآفة العالم ليس في أنه لا يجد ، إنما في أنه لا يحسن استغلال ما يجد من خيرات ، ومن مُقوِّمات لله تعالى في كونه . فقوله تعالى : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً … } [ لقمان : 20 ] هذه حقيقة لا ينكرها أحد ، فهل تنكرون أنه خلقكم ، وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً منها تتناسلون ؟ هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرَّات ، وخلق الليل فيه منامكم ، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم ؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة ، وجعل لكل منها مجالاً ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات ، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نِعَم الله علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا . فمعنى { ظَاهِرَةً … } [ لقمان : 20 ] أي : التي ظهرتْ لنا : { وَبَاطِنَةً … } [ لقمان : 20 ] لم نصل إليها بعد ، ومن نِعَم الله علينا ما ندركه ، ومنها ما لا ندركه . تأمل في نفسك مثلاً الكليتين وكيف تعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا ، فتنقيه وأنت لا تشعر بها ، وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازاً يملأ حجرة كبيرة ، كانت نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين ، ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية لا يعمل منها إلا مائة بالتناوب . وقالوا : إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب يعني المائة الأولى أدَّتْ مهمتها وتوقفت دون أنْ تتنبه المائة الأخرى ، ومن هندسة الجسم البشري أن خلق الله للإنسان كليتين ، حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الأخرى بدورها . أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل الأيام من آيات ونِعَم ، فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون لم نكُنْ نعرف شيئاً عن الكهرباء مثلاً ، ولا عن السيارات وآلات النقل وعصر العجلة والبخار . . إلخ . كلها نِعَم ظاهرة لنا الآن ، وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والاستنباط من معطيات الكون ، وحين تحسب ما أظهره العلم من نِعَم الله تجده حوالي 3 % ونسبة 97 % عرفها الإنسان بالصدفة . وقلنا : إن أسرار الله ونعمه في كونه لا تتناهى ، وليس لأحد أن يقول : إن ما وضعه الله في الأرض من آيات وأسرار أدى مهمته لأنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا ، ولا يتوقف إلا إذا تحقَّق قوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ … } [ يونس : 24 ] . وفي الآخرة سنرى من آيات الله ومن عجائب مخلوقاته شيئاً آخر ، وكأن الحق تعالى يقول لنا : لقد رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها ، فتعالوا لأُريكم الآيات الكبرى التي أعددتها لكم في الآخرة . ففي الآخرة سأنشئكم نشأة أخرى ، بحيث تأكلون ولا تتغوَّطون ولا تتألمون ، وتمر عليكم الأعوام ولا تشيبون ، ولا تمرضون ، ولا تموتون ، لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي ، أما في الآخرة فأنتم معي مع المسبِّب سبحانه ، فلا حاجة لكم للأسباب ، لا لشمس ولا لقمر ولا … إلخ . لذلك نقول : من أدب العلماء أنْ يقولوا اكتشفنا لا اخترعنا لأن آيات الله ونِعَمه مطمورة في كونه تحتاج لمن يُنقِّب عنها ويستنتجها مما جعله الله في كونه من معطيات ومقدمات . وسبق أنْ قلنا : إن كل سرٍّ من أسرار الله في كونه له ميلاد كميلاد الإنسان ، فإذا حان وقته أظهره الله ، إما ببحث العلماء وإلا جاء مصادفة تكرُّماً من الله تعالى على خَلْقه الذين قَصُرَت جهودهم عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه . وفي هذا إشارة مقدمة لنْ نؤمن بالغيب الذي أخبرنا الله به ، فما دُمْنا قد رأينا نِعَمه التي كانت مطمورة في كونه فينبغي علينا أنْ نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب ، وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلاً على ما غاب . واقرأ في هذه المسألة قول الله تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ … } [ البقرة : 255 ] أي : شاء سبحانه أنْ يوجد هذا الغيب ، وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطموراً ، فإنْ صادف بحثاً جاء مع البحث ، وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبلا أسباب ، بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم . أما الغيب الذي ليس له مُقدِّمات توصل إليه ، ولا يطلع عليه إلا الله فهو المعنيّ بقوله تعالى : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } [ الجن : 26 - 27 ] . وقال سبحانه : { ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً … } [ لقمان : 20 ] لأن الظاهرة تلفتنا إلى الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى ، والباطنة يدخرها الله لمن يأتي بعد ، ثم يدخر ادخاراً آخر ، بحيث لا يظهر إلا حين نكون مع الله في جنة الله . وقد حاول العلماء أن يُعدِّدوا النعم والآيات الظاهرة والباطنة ، فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا ظاهراً ، والباطنة ما أخبرنا الله بها ، فمثلاً حين تريد الجهاد في سبيل الله تُعِدُّ لذلك عُدَّته من سلاح وجنود … الخ وتأخذ بالأسباب ، فيؤيدك الله بجنود من عنده لم ترَوْها ، كما قال سبحانه : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ … } [ الأنفال : 12 ] . والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة ، فيقول : " للمؤمن ثلاثة هي له وليست له - يعني ليست من عمله - أما الأولى : أن المؤمنين يصلون عليه ، وأما الثانية فجعل الله له ثلث ماله يوصي به - يعني : لا يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه ، وكان المنطق أن تستفيد بما لك وأنت حيٌّ ، فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه الله تعالى بينهم بالميراث الذي شرعه ، فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتُكفّر به عن سيئاتك وتُطَهر به ذنوبك - أما الثالثة : أن الله تعالى ستر مساويك عن خَلْقه ، ولو فضحك بها لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك " . إن من أعظم النعم علينا أن يحجب الله الغيب عن خَلْق الله ، ولو خيَّرتَ أيَّ إنسان : أتحب أن تعرف غَيْب الناس ويعرفوا غيبك ؟ فلا شكَّ في أنه لن يرضى بذلك أبداً . والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة في قوله : " لو تكاشفتم ما تدافنتم " يعني : لو ظهر المستور من غيب الإنسان ، واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إنْ مات لا يدفنونه ، ولقالوا دَعُوه للكلاب تأكله ، جزاءً له على ما فعل . لكن لما ستر الله غيوب الناس وجدنا حتى عدو الإنسان يُسرع بحمله ودفنه ، كما قال القائل : محا الموت أسباب العداوة بيننا . لكن من غباء الإنسان أن ينبشَ عن عيوب الآخرين ، وأنْ يتتبعَ عوراتهم ، فهل ترضى أنْ يعاملك الناس بالمثل ، فيتتبعون عوراتك ، ويبحثون عن عيوبك ؟ ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تُزهِّدهم في كل حسناتك ، والله تعالى يريد أنْ ينتفع الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة . ثم يقول تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [ لقمان : 20 ] . المجادلة : الحوار في أمر ، لكل طرف فيه جنود ، وكل منهم لا يؤمن برأي الآخر ، والجدل لا يكون إلا في سبيل الوصول إلى الحقيقة ، ويسمونه الجدل الحتمي ، وهذا يكون موضوعياً لا لَددَ فيه ، ويعتمد على العلم والهدى والكتاب المنير ، وفيه نقابل الرأي بالرأي ليثمر الجدال . ومن ذلك قوله تعالى : { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ العنكبوت : 46 ] أما الجدل الذي يريد فيه كل طرف أنْ يُعلي رأيه ولو بالباطل فهو مماراة وسفسطة لا توصل إلى شيء . والجدل مأخوذ من الجَدْل أي الفَتْل ، والشيء حين يُفتل على مثله يقويه ، كذلك الرأي في الجدل يُقوِّي الرأي الآخر ، فإذا ما انتهيا إلى الصواب تكاتفا على إظهاره وتقويته ، فالجدل المراد به تقوية الحق وإظهاره . فإنْ كان الجدل غير ذلك فهو مماراة يحرص فيها كل طرف على أن يعلي رأيه ولو بالباطل . والحق سبحانه يبين لنا أن من الناس من أَلِفَ الجدل في الله على غير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير ، فيقولون مثلاً في جدالهم : أللكون إله موجود ؟ وإنْ كان موجوداً ، أهو واحد أم متعدد ؟ وإنْ كان موجوداً أيعلم الجزئيات أم الكليات ؟ أيزاول مُلْكه كل وقت ؟ أم أنه خلق القوانين ، ثم تركها تعمل في الكون وتُسيِّره ؟ كأن الله تعالى زاول سلطانه في الملْك مرة واحدة . ومعلوم أن الله تعالى قيُّوم أي : قائم على أمر الخَلْق كله في كل وقت ، والدليل على ذلك هذه المعجزات التي خرقتْ النواميس لتدلّ على صِدْق الرسل في البلاغ عن الله ، كما عرفنا في قصة إحراق إبراهيم - عليه السلام - فلو أن المسألة إنجاء إبراهيم من النار لما مكّنهم الله منه ، أو مكَنهم منه ومن إلقائه في النار ، ثم أرسل على النار سحابة تُطفِئها . لكن أراد سبحانه أن يشعلوا النار ، وأنْ يُلقوا بإبراهيم فيها ، ومع ذلك يخرج منها سالماً ليروْا بأعينهم هذه المعجزة الخارقة لقانون النار ليكبتهم الله ، ولا يعطيهم الفرصة ليخدعوا الناس ، ولو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم لوجدوا هذه الفرصة ولقالوا : لو أمسكنا به لفعلنا به كذا وكذا . ومعنى { بِغَيْرِ عِلْمٍ … } [ لقمان : 20 ] العلم أن تعرف قضية وتجزم بها ، وهي واقعة وتستطيع أنْ تُدلِّل عليها ، فإنْ كانت القضية التي تؤمن بها غير واقعة ، فهذا هو الجهل ، فالجاهل لا يوضع في مقابل العالم لأن الجاهل لديه علم بقضية لكنها باطلة ، وهذا يتعبك في الإقناع لأنه ليس خالي الذهن ، فيحتاج أولاً لأنْ تُخرج من ذِهنْه القضية الباطلة وتُحلِ محلها القضية الصحيحة ، أما الأُميّ فهو خالي الذِّهن من أي قضيةَ . فإنْ كانت القضية التي تجزم بها واقعة لكن لا تستطيع أنْ تُدلِّل عليها ، كالولد الصغير الذي علمناه أن الله أحد واستقرتْ في ذهنه هذه المسألة لأن أباه أو معلمه لقَّنه هذه القضية حتى أصبحتْ عقيدة عنده ، فالذي يُدلِّل عليها مَنْ لقنّها له إلى أنْ يكبر ، ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها . والعلم أنواع ، منها وأولها : العلم البدهي الذي نصل إليه بالبديهة دون بحث ، فمثلاً حين نرى الإنسان يتنفس نعلم أنه حيٌّ بالبديهة ، ونعلم أن الواحد نصف الاثنين ، وأن السماء فوقنا ، والأرض تحتنا … الخ . وإذا نظرتَ إلى معلومات الأرض كلها تجد أن أم هذه المعلومات البديهة . فعلم الهندسة مثلاً يقوم على نظريات تستخدم الأولى منها مقدمة لإثبات الثانية ، والثانية مقدمة لإثبات الثالثة وهكذا . فحين تعيد تسلسل النظريات الهندسية فإنك لا بُدَّ عائد إلى النظرية الأولى وهي بديهة تقول : إذا التقى مستقيم بآخر نتج عن هذا الالتقاء زاويتان قائمتان . إذن : فأعقد النظريات لا بُدَّ أن تعود إلى أمر بدهي منثور في كون الله ، المهم مَنْ يلتفت إليه ، وقد قال الحق سبحانه وتعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . فقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ … } [ لقمان : 20 ] أي : وجوداً وصفاتاً { بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [ لقمان : 20 ] يعني : أن الجدل يصحّ إنْ كان بعلم وهدى وكتاب منير ، فإنْ كان بغير ذلك فلا يُعَدُّ جدلاً إنما مراء لا طائلَ من ورائه . ومعنى الهدى : أي الاستدلال بشيء على آخر ، كالعربي الذي ضَلَّ في الصحراء ، فلما رأى على الرمال بَعْراً وأثراً لأقدام استأنس بها ، وعلم أنه على طريق مطروق ولا بُدَّ أن يمرَّ به أحد ، فلما عرضتْ له قضية الإيمان استدل عليها بما رأى فقال : البعرة تدل على البعير ، والقدم تدل على المسير ، سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، نجوم تزهر ، وبحار تزخر … أَلاَ يدل ذلك على اللطيف الخبير . فالإنسان حين ينظر في الكون وفي آياته لا بُدَّ أنْ يصل من خلالها إلى الخالق عز وجل ، فما كان لها أنْ تتأتى وحدها ، ثم إنه لم يدَّعِها أحدٌ لنفسه ممَّنْ ينكرون وجود الله ، وقلنا : إن أتفه الأشياء التي نراها لا يمكن ان توجد هكذا بدون صانع ، فمثلاً الكوب الذي نشرب فيه ، هل رأينا مثلاً شجرة تطرح لنا أكواباً ؟ إذن : لا بُدَّ أن لها صانعاً فكر في الحاجة إليها ، فصنعها بعد أنْ كان الإنسان يشرب الماء عباً ، أو نزحاً بالكف ، وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إلا بعد بحث العلماء في عناصر الوجود ، أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة ، فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد صَهْره تحت درجة حرارة عالية ، فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلماً … إلخ . فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق الله هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملَّ أو تتخلف يوماً واحداً ، وهي لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى قطعة غيار ، أليست جديرة بأن نسأل عمَّنْ خلقها وأبدعها على هذه الصورة ، خاصة وأنها فوق قدرتنا ولا تنالها إمكاناتنا . هذه هي الآيات التي نأخذها بالأدلة ، لكن هذه الأدلة لا تُوصِّلنا إلا إلى أن لهذا الكون بآياته العجيبة خالقاً مبدعاً ، لكن العقل لا يصل بي إلى هذا الخالق : مَنْ هو ، وما اسمه ، إذن : لا بُدَّ من بلاغ عن الله على يد رسول يبلغنا مَنْ هذا الخالق وما اسمه وما مطلوباته ، وماذا أعدّ لمن أطاعه ، وماذا أعدَّ لمن عصاه . وفَرْق بين التعقُّل والتصوُّر ، والذي أتعب الفلاسفة أنهم خلطوا بينهما ، فالتعقل أن أنظر في آيات الكون ، وأرى أن لها موجداً ، أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد : شكله ، اسمه ، صفاته … إلخ وهذه لا تتأتى بالعقل ، إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الإله الموجد . وسبق أن ضربنا مثلاً - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا : لو أننا نجلس في مكان مغلق ، وطرق الباب طارق ، فكلنا يتفق على أن طارقاً بالباب لا خلاف في هذه ، لكن نختلف في تصوُّره ، فواحد يتصور انه رجل ، وآخر يقول : طفل ، وآخر يتصوَّره امرأة ، وواحد يتصوره بشيراً ، وآخر يتصوره نذيراً … إلخ . إذن : اتفقنا في التعقُّل ، واختلفنا في التصور ، ولكي نعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول : من الطارق ؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو ؟ ولماذا جاء ؟ ويُنهي لنا هذا الخلاف . كذلك الحق - تبارك وتعالى - هو الذي يخبرنا عن نفسه ، لكن كيف يتم ذلك ؟ من خلال رسول من البشر يستطيع أنْ يتجلى الله عليه بالخطاب ، بأن يكون مُعدّاً لتلقِّي هذا الخطاب ، لا أنْ يخاطب كل الناس . وقد مثَّلْنا لذلك أيضاً بلمبة الكهرباء الصغيرة أو الراديو الذي لا يتحمل التيار المباشر ، يل يحتاج إلى ترانس أو منظم يعطيه الكهرباء على قَدْره وإلا حُرق ، فحتى في الماديات لا بد من قوي يستقبل ليعطي الضعيف . والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه ، ويُبلِّغ الناس ، فيكلم الله الملائكة ، والملائكة تكلم الرسل من البشر لذلك يقول سبحانه : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً … } [ الشورى : 51 ] . وإلا لو كلَّم الله جميع البشر ، فما الحاجة للرسل ؟ لذلك لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه : أعرفتَ ربك بمحمد ، أم عرفتَ محمداً بربك ؟ فقال : لو عرفتُ ربي بمحمد لكان محمد أوثقَ عندي من ربي ، ولو عرفتُ محمداً بربي ، فما الحاجة إذن للرسل ، لكن عرفتُ ربي بربي ، وجاء محمد ، فبلَّغني مراد ربي منى . إذن : لا بُدَّ من هذه الواسطة . والحق سبحانه يعطينا في القرآن مثالاً يوضح هذه المسألة في قوله تعالى عن سيدنا موسى : { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ … } [ الأعراف : 143 ] فبماذا أجابه ربه ؟ { قَالَ لَن تَرَانِي … } [ الأعراف : 143 ] ولم يقل سبحانه : أنا لا أُرىَ ، والمعنى : لو أعددتُكَ الإعدادَ المناسب لهذه الرؤية لرأيتَ بدليل أننا سنُعَدُّ في الآخرة على هيئة نرى فيها الله عز وجل : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . وفي المقابل يقول عن الكفار الذين سيُحرمون هذه الرؤية { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] . ثم لما تجلى الحق سبحانه للجبل ، وهو الجنس الأقوى من موسى مادةً وصلابة أندكَّ الجبل ، ونظر موسى إلى الجبل المتجلَّي عليه فخرَّ صَعقاً ، فما بالك لو نظر إلى المتجلِّي سبحانه ؟ إذن : الحق سبحانه حينما يريد أنْ يخاطب أحداً من خَلْقه ، أو يتجلى عليه يُعِدُّه لذلك ، ويُربِّيه على عينه ، كما قال عن موسى { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [ طه : 39 ] وقال في موضع آخر : { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [ طه : 41 ] ثم يقوم هذا المربي الذي رباه الله بتربية الخَلْق . وقد ربى محمد صلى الله عليه وسلم أمته في ثلاث وعشرين سنة ، ولو أن الله تعالى خاطب كل إنسان بالمنهج لاستغرقتْ تربية الناس وقتاً طويلاً لذلك يصطفي الله الرسل ، ويعطيهم من الخصائص ما يُمكِّنهم من تربية الأمم بعد أنْ ربَّاهم الله ، واصطنعهم على عينه . إذن : كان ولا بُدَّ من إرسال الرسل للبلاغ عن الله : مَنْ هو ، ما اسمه ، ما صفاته ؟ ما مطلوباته ؟ ماذا أعدَّ لمن اطاعه ؟ وماذا أعد لمن عصاه … إلخ . لذلك فأول دليل على بطلان الشرك أنْ تقول للذي يشرك الشمس أو القمر أو الأصنام مع الله في العبادة : وماذا قالت لك هذه الأشياء ؟ ما مطلوباتها ؟ ما مرادها منك ؟ وإلا ، فلماذا تعبدها والعبادة في أوضح معانيها : طاعة العابد لأمر المعبود ونهيه ؟ فإنْ قُلْتَ : إذن لماذا قَبِلَتْ عقول هؤلاء القوم أنْ يعبدوا هذه الأشياء ؟ نقول : لأن التديُّنَ طبيعة في النفس البشرية ومركوز في الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وسبق أنْ أوضحنا أن كلاً منا فيه ذرة حية من أبيه - عليه السلام - لم يطرأ عليها الفناء ، وإلا لما وُجِد الإنسان ، وهذه الذرة في كل منا هي التي شهدتْ الفطرة ، وشهدتْ الخلقَ ، وشهدتْ العهد الذي أخذه الله علينا جميعاً { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ … } [ الأعراف : 172 ] . فإنْ حافظتَ على إشراقية هذه الذرة فيك ، ولم تُعرِّضها لما يطمس نورها - ولا يكون ذلك إلا بالسير على منهج خالقك وبناء لبنات جسمه مما أحل الله - إنْ فعلتَ ذلك أنار الله وجهك وبصيرتك . لذلك جاء في الحديث أن العبد يشكو : يقول " دعوتُ فلم يُستجب لي ، لكن أنَّى يستجاب له ، ومطعمه من حرام ، ومشربه من حرام ، وملبسه من حرام ؟ " كيف وقد طمس الذرة النورانية فيه ، وغفل عن قانون صيانتها ؟ واقرأ قوله تعالى : { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [ طه : 123 - 124 ] . فالمعيشة الضنك والعياذ بالله تأتي حين تنطمس النورانية الإيمانية ، وحين لا تحافظ على إشراقية هذه الذرة التي شهدتْ خَلْق الله ، وشهدتْ له بالربوبية ، ولو حافظت عليها لظلّتْ كل التعاليم واضحة أمامك ، وما غفلت عن منهج ربك هذه الغفلة التي جرَّتْ عليك المعيشة الضنك ، واقرأ قول الله تعالى : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] أي : نوراً يهديكم وتُفرِّقون به بين الحق والباطل . والحق سبحانه يوضح لنا ما يطمس الفطرة الإيمانية ، وهما أمران : الغفلة والتي قال الله عنها : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] والقدوة التي قال الله عنها : { إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ … } [ الأعراف : 173 ] . فالذي يطمس الفطرة الإيمانية الغفلة عن المنهج ، هذه الغفلة تُوجِد جيلاً لا يتمسك بمنهج الحق ، وبذلك تكون العقبة في الجيل الأول الغفلة ، لكن في الأجيال اللاحقة الغفلة والقدوة السيئة ، وهكذا كلما تنقضي الأجيال تزداد الغفلة ، وتزداد القدوة السيئة لذلك يوالي الحق سبحانه إرسال الرسل ليزيح عن الخَلْق هذه الغفلة ، وليوجد لهم من جديد قدوةً حسنة ، ليقارنوا بين منهج الحق ومنهج الخَلْق . فمَنْ أراد أنْ يجادل في الله فليجادل بعلم وبهدى وبكتاب منير مُنزَّلٍ من عند الله ، ووَصْف الكتاب بأنه منير يدلُّنا على أن الكتاب المنسوب إلى الله تعالى لا بُدَّ أن يكون منيراً لكنه قد يفقد هذا النور بما يطرأ عليه من تحريف وتبديل ونسيان وكتمان … إلخ . وقد أوضح الله تعالى هذه المراحل في قوله تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ … } [ الأنعام : 44 ] . ثم : { يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ … } [ البقرة : 159 ] . وإن كان الإنسان يُعذَر في النسيان ، فلا يُعذَر في الكتمان ، ثم الذي نجا من النسيان ومن الكتمان وقع في التحريف { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ … } [ المائدة : 13 ] ولَيْتهم اقتصروا على ذلك ، إنما اختلفوا من عند أنفسهم كلاماً ، ثم نسبوه إلى الله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 79 ] فأنواع الطمس هذه أربعة ظهرت كلها في اليهود . إذن : فالكتب التي بأيديهم لا تصلح للجدل في الله لأنها تفقد العلم والحجة والهدى ، ولا تُعَدُّ من الكتاب المنير المشرق الذي يخلو من التضبيبات والفجوات ، فجوات النسيان والكتمان ، والتحريف والاختلاق . فمَنْ يريد أنْ يجادل في الله فليجادل بناء على علم بدهىٍّ أو هدى استدلالي ، أو كتاب منير . والكتب المنزلَّة كثيرة ، منها صحف إبراهيم وموسى ، ومنها زُبُر الأولين ، والزبور نزل على سيدنا داود ، والتوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى - عليهم جميعاً السلام - وهذه كلها كتب من عند الله ، لكن هل طرأ عليها حالة عدم الإنارة ؟ نقول : نعم ، لأنها انطمست بشهوات البشر فيها وبأهوائهم التي شوَّهتها وأخرجتها عن الإشراقية والنورانية التي كانت لها ، وهذا نتيجة السلطة الزمنية وهي أقسى شيء في تغيير المناهج . هذه السلطة الزمنية هي التي منعتْ اليهود أن يؤمنوا برسول الله ، وهم يعلمون بعثته في بلاد العرب ، ويعلمون موعده وأوصافه ، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل لذلك يقول القرآن عنهم : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ … } [ الأنعام : 20 ] . ويقول عنهم : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] لذلك ، سيدنا عبد الله بن سلام يقول عن سيدنا رسول الله : والله لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لابني ، ومعرفتي لمحمد أشد . ويحكي القرآن عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون برسول الله على الكفار فيقولون لهم : لقد أظل زمان نبي جديد نسبقكم إليه ، ونقتلكم به قتل عاد وإرم { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 89 ] . لماذا ؟ لأنهم يعلمون أنه سيسلبهم المكانة التي كانت لهم ، والريادة التي أخذوها في العلم والاقتصاد والحرب … إلخ ، لقد كانوا يُعِدُّون واحداً منهم ليُنصِّبوه ملِكاً عليهم في المدينة ليلة هاجر إليها رسول الله ، فلما دخلها رسول الله لم تَعُد لأحد مكانة الريادة بعد رسول الله ، فرفض هذا الملك الجديد . إذن : فكل الكتب السماوية لحقها التحريف والتغيير ، فلم يضمن لها الحق سبحانه الصيانات التي تحميها كما حمى القرآن ، وما ذاك إلا ليظهر شرف النبي الخاتم ، فالكتب السابقة للقرآن جاءت كتبَ أحكام ، ولم تكن معجزة في ذاتها ، فالرسل السابقون كانت لهم معجزات منفصلة عن الكتب وعن المنهج ، فموسى عليه السلام معجزته : العصا واليد … إلخ وكتابه ومنهجه التوراة ، وعيسى عليه السلام معجزته أنْ يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله وكتابه ومنهجه الإنجيل . أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته وكتابه ومنهجه هو القرآن ، فهو منهج ومعجزة ستصاحب الزمان إلى أنْ تقوم الساعة لأن رسالته هي الرسالة الخاتمة ، فلا بُدَّ أن يكون كتابه ومعجزته كذلك فنقول : هذا محمد وهذه معجزته . أما الرسالات السابقة فكانت المعجزة وقتية لمن رآها وعاصرها ، ولولا أن الله أخبرنا بها ما عرفنا عنها شيئاً ، وما صدَّقنا بها ، وسبق أنْ شبَّهناها بعود الكبريت الذي يشعل مرة واحدة رآه مَنْ رآه ، ثم يصبح خبراً لذلك لا نستطيع أن نقول مثلاً : هذا موسى عليه السلام وهذه معجزته لأننا لم نَرَ هذه المعجزة . ولما كانت الكتب السابقة كتباً تحمل المنهج ، وليست معجزة في ذاتها ترك الله تعالى حفظها لأهلها الذين آمنوا بها ، وهذا أمر تكليفي عُرْضة لأنْ يُطاع ، ولأنْ يُعصَى ، فكان منهم أنْ عصوا هذا الأمر فحدث تضبيب في هذه الكتب . يقول تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ … } [ المائدة : 44 ] . وساعة تسمع الهمزة والسين والتاء ، فاعلم أنها للطلب : استحفظتُك كذا يعني : طلبتُ منك حِفْظه ، مثل : استفهمتُ يعني طلبت الفهم ، واستخرجت ، واستوضحت … إلخ . فلما جُرِّب الخَلْق في حفظ كلام الخالق فلم يؤدوا ، ولم يحفظوا ، تكفَّل الله سبحانه بذاته بحفظ القرآن ، وقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . لذلك ظلَّ القرآن كما نزل لم تَنَلْه يد التحريف أو الزيادة أو النقصان ، وصدق الله تعالى حين قال في أول سوره { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ … } [ البقرة : 2 ] لا الآن ، ولا بعد ، ولا إلى قيام الساعة ، حتى أن أعداء القرآن أنفسهم قالوا : لا يوجد كتاب مُوثَّق في التاريخ إلا القرآن . والعجيب في مسألة حِفْظ القرآن أن الذي يحفظ شيئاً يحفظه ليكون حجة له ، لا حجة عليه ، كما تحفظ أنت الكمبيالة التي لك على خصمك ، أما الحق - سبحانه وتعالى - فقد ضمن حِفْظ القرآن ، والقرآن ينبئ بأشياء ستوجد فيما بعد ، والحق سبحانه لا يحفظ هذا ويُسجِّله على نفسه ، إلا إذا ضمن صِدْق وتحقُّق ما أخبر به وإلا لما حفظه ، إذن : فحِفْظ الحق سبحانه للقرآن دليل على أنه لا يطرأ شيء في الكون أبداً يناقض كلام الله في القرآن : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . وسبق أنْ قُلنا : إن القرآن حكم في أشياء مستقبلية للخلق فيها اختيار ، فيأتي اختيار الخَلْق وفق ما حكم ، مع أنهم كافرون بالقرآن ، مكذبون له ، ومع ذلك لم يحدث منهم إلا ما أخبر الله به ، وكان بإمكانهم أنْ يمتنعوا ، لكن هيهات فلا يتم في كون الله إلا ما أراد . لكن ، ماذا نفعل فيمَنْ يجادل في الله بغير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير ؟ نلفته إلى العلم ، وإلى الهدى ، وإلى الكتاب المنير . ندعوهم إلى النظر في الآيات الكونية ، وفي البدهيات التي تثبت وجود الخالق عز وجل ، ندعوهم إلى الهدى ، والاستدلال وإلى النظر في المعجزة التي جاء بها رسول الله ، ألم يخبر وهو في شدة الحصار الذي ضربه عليه وعلى آله كفار مكة حتى اضطروهم إلى أكل الميتة وأوراق الشجر … إلخ . ألم يُخبر القرآن في هذه الأثناء بقوله تعالى : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] حتى أن سيدنا عمر ليتعجب : أيُّ جمع هذا ؟ ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا ؟ فلما جاء يوم بدر ورأى بعينه ما حاق بالكفار قال : صدق الله { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . ألم يقل القرآن عن الوليد بن المغيرة { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } [ القلم : 16 ] وفعلاً ، لم يعرفوا الوليد يوم بدر بين القتلى إلا بضربة على خرطومه . ألم يُشِرْ رسول الله قبل المعركة إلى مصارع القوم ، فيقول وهو يشير إلى مكان بعينه : هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، ثم تأتي المعركة ويُقتل هؤلاء في نفس الأماكن التي أشار إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحق سبحانه أعطانا في القرآن أشياء تدل على أنه كتاب يُنوِّر لنا الماضي ، ويُنوِّر لنا الحاضر والمستقبل . وسبق أنْ قُلْنا : إن الغيب دونه حجب الزمان ، أو حجب المكان ، فما سبقك من أحداث يحجبها عنك حجاب الزمان الماضي ، وما سيحدث في المستقبل يحجبه عنك حجاب الزمان المستقبل ، أما الحاضر الذي تعيشه فيحجبه عنك المكان ، بل وقد تكون في نفس المكان وتجلس معي ، لكنك لا تعرف ما في صدري مثلاً . وكل هذه الحجب خرقها الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فمثلاً في غزوة مؤتة لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إليها ، وبقي هو في المدينة قال : حين وزَّع القيادة : يحمل الراية فلان ، فإذا قُتِل يحملها فلان ، فإذا قُتِل يحملها فلان وسمَّى هؤلاء الثلاثة ، ثم قال : فإذا قُتِل الثالث فاختاروا من بينكم مَنْ يحملها . وجلس النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في المدينة ، وأخذ يصف لهم المعركة وصفاً تفصيلياً ، فلما عاد الجيش من مؤتة وجدوا واقع المعركة وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة . وقد نبهتنا هذه المسألة إلى السر في تسمية مؤتة غزوة وكانوا لا يقولون غزوة إلا للتي شهدها رسول الله بنفسه ، أما التي لا يخرج فيها فتسمّى سرية فلما أخبر صلى الله عليه وسلم بما يدور في المعركة مع بُعد المسافات اعتبرها المسلمون غزوة . بل وأبلغ من ذلك ، فالحق سبحانه كسف لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يدور في نفوس قومه : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ … } [ المجادلة : 8 ] . هذه كلها من آيات الإنارة في القرآن التي استوعبتْ الماضي والحاضر والمستقبل . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ … } .