Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 22-22)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يعني : مَنْ أراد أن يُخلِّص نفسه من الجدل بغير علم ، وبغير هدى ، وبغير كتاب منير ، فعليه أنْ يُسلم وجهه إلى الله لأن الله تعالى قال في آية أخرى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] ثم استثنى منهم { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 40 ] . وقال سبحانه : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ … } [ الإسراء : 65 ] . ومعنى { يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ … } [ لقمان : 22 ] أخلص وجهه في عبادته لله وحده ، وبذلك يكون في معية الله ، ومَنْ كان في معية ربه فلا يجرؤ الشيطان على غوايته ، ولا يُضيع وقته معه ، إنما ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه ، فالذي ينجيك من الشيطان أنْ تُسلِم وجهك لله . وقد ضربنا لذلك مثلاً بالولد الصغير حينما يسير في صحبة أبيه فلا يجرؤ أحد من الصبيان أن يعتدي عليه ، أما إنْ سار بمفرده فهو عُرْضة لذلك ، لا يَسْلم منه بحال ، كذلك العبد إنِ انفلتَ من يد الله ومعيته . وهذا المعنى ورد أيضاً في قوله سبحانه : { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ … } [ البقرة : 112 ] وهنا قال { إِلَى ٱللَّهِ … } [ لقمان : 22 ] فما الفرق بين حرفي الجر : إلى ، اللام ؟ استعمال إلى تدل على أن الله تعالى هو الغاية ، والغاية لا بُدَّ لها من طريق للهداية يُوصِّل إليها . أمَّا اللام فتعني الوَصْل لله مباشرة دون قطع طريق ، وهذا الوصول المباشر لا يكون إلا بدرجة عالية من الإخلاص لله . فقوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى ٱللَّهِ … } [ لقمان : 22 ] يعني : أنك على الطريق الموصِّل إلى الله تعالى ، وأنك تؤدي ما افترضته عليك . ومن إسلام الوجه لله قَوْل ملكة سبأ : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] الكلام هنا كلام ملكة ، فلم تقل : أسلمتُ لسليمان ، لكن مع سليمان لله ، فلا غضاضة إذن . وإسلام الوجه لله ، أو إخلاص العمل لله تعالى عملية دقيقة تحتاج من العبد إلى قدر كبير من المجاهدة لأن النفس لا تخلو من هفوة ، وكثيراً ما يبدأ الإنسان العمل مخلصاً لله ، لكن سرعان ما تتدخل النفس بما لها من حب الصِّيت والسمعة ، فيخالط العملَ شيء من الرياء ولو كان يسيراً . لذلك فإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل عنا هذه المسألة ويطمئن المسلم على عمله ، فيقول في دعائه : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك ، فخالطني فيه ما ليس لك " . والنبي صلى الله عليه وسلم ليس مظنة ذلك ، لكن الحق سبحانه علَّمه أن يتحمل عن أمته كما تحمَّل الله عنه في قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ … } [ الأنعام : 33 ] أي : أنك أسمى عندهم من أن تكون كاذباً . { وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] . وقوله تعالى : { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ … } [ لقمان : 22 ] كلمة استمسك تدلُّ على القوة في الفعل والتشبُّث بالشيء كما نقول تبِّت فيه ، وهي تعني : طلب أنْ يمسك لذلك لم يَقُل مسكَ إنما استمسك . وأول مظاهر الاستمساك أنك لا تطمئن إلى ضعف نفسك ، فيكون تمسك بالعروة الوثقى أشدّ ، كما لو أنك ستنزل من مكان عالٍ على حبل مثلاً فتتشبت به بشدة لأنك إنْ تهاونت في الاستمساك به سقطت ، وهذا دليل على ثقتك بضعف نفسك ، وأنه لا ينُجيك من الهلاك ، ولا واقي لك إلا أنْ تستمسك بهذا الحبل . كذلك الذي يُسْلِم وجهه لله ويُمسِك بالعروة الوثقى ، فليس له إلا هذه مُنْجية وواقية . وكلمة { بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ … } [ لقمان : 22 ] العروة : هي اليد التي نمسك بها الكوز أو الكوب أو الإبريق ، وهي التي تفرق بين الكوب والكأس ، فالكأس لا عروة لها ، إلا إذا شُرب فيها الشراب الساخن ، فيجعلون لها يداً . ومعنى { ٱلْوُثْقَىٰ … } [ لقمان : 22 ] أي : المحكمة ، وهي تأنيث أوثق ، نقول : هذا أوثق ، وهذه وُثْقى ، مثل أصغر وصُغْرى ، وهي تعني الشيء المرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصله ، فإنْ كان دَلْواً فهي وُثْقى بالدلو ، وإنْ كان كوباً فهي وُثْقى بالكوب ، فهي الموثقة التي لا تنقطع ، ولا تنفصل عن أصلها . والعُرْوة تختلف باختلاف الموثِّق ، فإنْ صنع العروة صانع غاشٌّ ، جاءت ضعيفة هشَّة ، بمجرد أنْ تمسك بها وتنخلع في يدك ، وهذا ما نسميه " الغش التجاري " وهو احتيال لتكون السلعة رخيصة يقبل عليها المشتري ، ثم يكون المعوِّض في ارتفاع قطع الغيار ، كما نرى في السيارات مثلاً ، فترى السيارة رخيصة وتنظر إلى ثمن قطع الغيار تجده مرتفعاً . إذن : إرادة عدم التوثيق لها مقصد عند المنتفع ، فإذا كان الموثِّق هو الله تعالى فليس أوثق من عُرْوته . وفي موضع آخر يقول الحق عنها { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ … } [ آل عمران : 103 ] فالعروة الوُثْقى هي حبل الله المتين الذي يجمعنا فلا نتفرق لذلك في الاصطلاح نسمي الفتحة في الثوب والتي يدخل فيها الأزرار عروة لماذا ؟ لأنها هي التي تجمع الثوب ، فلا يتفرق . وفي آية أخرى وصفَ العروة الوثقى بقوله سبحانه : { لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا … } [ البقرة : 256 ] . ثم يقول سبحانه : { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأَمُورِ } [ لقمان : 22 ] أي : مرجعها ، فلا نظن أن الله تعالى خلقنا عبثاً ، أو أنه سبحانه يتركنا سُدًى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . ولو تركنا الله تعالى بلا حساب لكان المنحرف الذي أعطى لنفسه شهواتها في الدنيا أوفر حظاً من المستقيم ، وما كان الله تعالى ليغشَّ عبده الذي آمن به ، وسار على منهجه ، أو يسلمه للظلمة والمنحرفين . وإذا كانت لله تعالى عاقبة الأمور أي : في الآخرة ، فإنه سبحانه يترك لنا شيئاً من ذلك في الدنيا نصنعه بذواتنا لتستقيم بنا مسيرة الحياة وتثمر حركتها ، ومن ذلك مثلاً ما نجريه من الامتحانات للطلاب آخر العام لنميز المجدّ من الخامل ، وإلا تساوى الجميع ولم يذاكر أحد ، ولم يتفوق أحد لذلك لا بُدَّ من مبدأ الثواب والعقاب لتستقيم حركة الحياة ، فإذا كنا نُجري هذا المبدأ في دنيانا ، فلماذا نستنكره في الآخرة ؟ فهل يليق بهذا العالَم الذي خلقه الله على هذه الدقة وكوَّنه بهذه الحكمة أن يتركه هكذا هَملاً يستشري فيه الفساد ، ويرتع فيه المفسدون ، ثم لا يُحاسبون ؟ إن كانت هذه هي العاقبة ، فيا خسارة كل مؤمن ، وكل مستقيم في الدنيا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم … } .