Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 12-12)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تصوِّر لنا هذه الآية مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، يوم يُساق المجرم ذليلاً إلى ما يستحق من العذاب ، كأنْ ترى مجرماً مثلاً تسوقه الشرطة وهو مُكبَّل بالقيود يذوق الإهانة والمذلّة ، فتشفى نفسك حين تراه ينال جزاءه بعد أنْ أتعب الدنيا وأداخ الناس . وفي هذا المشهد يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو أول مخاطب ، ثم يصبح خطاباً لأمته : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ … } [ السجدة : 12 ] أي : حالة وجودهم أنهم ناكسو رءوسهم . وتقدير جواب الشرط : لرأيتَ أمراً عجيباً يشفي صدرك مما فعلوه بك . ونلحظ في هذا الأسلوب دقة الأداء في قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى … } [ السجدة : 12 ] فلم يقل مثلاً : ولو تعلم لأن إخبار الله كأنه رؤيا العين ، فحين يخبرك الله بأمر ، فاعلم أنه أصدق من عينك حين ترى لأن عينك قد تخدعك ، أما إخبار الله لك فهو الحق . ومعنى { نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ … } [ السجدة : 12 ] النكس هو جَعْل الأعلى أسفل ، والرأس دائماً في الإنسان أعلى شيء فيه . وقد وردتْ هذه المادة في قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام حين حطم الأصنام ، وعلَّق الفأس على كبيرهم : { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } [ الأنبياء : 65 ] . فبعد أنْ عادوا إلى رشدهم واتهموا أنفسهم بالظلم انتكسوا وعادوا إلى باطلهم ، فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } [ الأنبياء : 65 ] . وورد هذا اللفظ أيضاً في قوله تعالى : { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } [ يس : 68 ] . والمعنى : نرجعه من حال القوة والفتوة إلى حال الضعف والهرم وعدم القدرة ، كما قال سبحانه : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً … } [ النحل : 70 ] . فبعد القوة يتكئ على عصا ، ثم لا يستطيع السير فيحبو ، أو يُحمل كما يُحمل الطفل الصغير ، هذا هو التنكيس في الخَلْق ، وحين نتأمله نقول : الحمد لله لو عافانا من هذه الفترة وهذه التنكيسة ، ونعلم أن الموت لُطْف من الله ورحمة بالعباد ، أَلاَ ترى أن مَنْ وصل إلى هذه المرحلة يضيق به أهله ، وربما تمنَّوْا وفاته ليستريح وليستريحوا ؟ وتنكيس رءوس المجرمين فيه إشارة إلى أن هذه هي العاقبة فاحذر المخالفة ، فمَنْ تكبر وتغطرس في الدنيا نُكِّسَتْ رأسه في الآخرة ، ومَنْ تواضع لله في الدنيا رُفِعت رأسه ، وهذا معنى الحديث الشريف : " من تواضع لله رفعه " . وفي تنكيس رءوس المجرمين يوم القيامة معنى آخر لأن الحق - سبحانه وتعالى - سيفعل في كل مخالف في الآخرة من جنس ما فعل في الدنيا ، وهؤلاء الذين نكَّس الله رءوسهم في الاخرة فعلوا ذلك في الدنيا ، واقرأ إن شئتَ قول ربك : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ … } [ هود : 5 ] . أي : يطأطئون رءوسهم لكي لا يواجهوا رسول الله ، فللحق صَوْلة وقوة لا يثبت الباطل أمامها لذلك نسمع من أصحاب الحق : تعالَ واجهني ، هات عيني في عينك ، ولا بُدَّ أنْ يستخزي أهل الباطل ، وأنْ يجبنوا عن المواجهة لأنها ليست في صالحهم . وهذا العجز عن المواجهة يدعو الإنسان إلى ارتكاب أفظع الجرائم ، ويصل به إلى القتل ، والقتل لا يدل على القوة ، إنما يدل على عجز وضعف وجُبْن عن المواجهة ، فالقاتل أقرَّ بأنه لا يستطيع أنْ يواجه حياة عدوه فقتله ، ولو كان قوياً لواجه حياته . ومن العذاب الذي يأتي من جنس ما فعل الإنسان في الدنيا قول الله تعالى في الذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [ التوبة : 34 - 35 ] . سبحان الله ، كأنها صورة طبق الأصل مما فعلوه في الدنيا ، فالواحد منهم يأتيه طالب العطاء فيعبس في وجهه ، ثم يُعرض عنه ، ويعطيه جنبه ، ثم يعرض عنه ويعيطه ظهره ، ويأتي العذاب بنفس هذا التفصيل . إذن : فعلى العاقل أن يحذر هذه المخالفات ، فمن جنسها يكون العذاب في الآخرة . وهؤلاء المجرمون حال تنكيسهم يقولون : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا … } [ السجدة : 12 ] هذا كلامهم ، ومع ذلك لم يقل القرآن : قالوا أبصرنا وسمعنا ، فحَذْف الفعل هنا يدل على أن القول ليس سهلاً عليهم لأنه إقرار بخطئهم الأول وإعلان لذلَّة التوبة . وقلنا : إن هذه هي الآية الوحيدة التي تقدَّم فيها البصر على السمع لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولاً ، ثم نسمع ما نراه . لذلك يقول تعالى مُصوِّراً أثر هذا الهول : { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [ الحج : 2 ] . وفي معرض حديثنا السابق عن الحواس : السمع والبصر والفؤاد فاتنا أنْ نذكر آية مهمة جاءت على غير هذا الترتيب ، وهي قول الله تعالى : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] . فجاء الفؤاد هنا أولاً ، وجمع الفؤاد مع السمع في الختم لأنهما اشتركا فيه ، أما البصر فاختص بشيء آخر ، وهو الغشاوة التي تُغطِّي أبصارهم ذلك لأن الآية السابقة في السمع والبصر والفؤاد كانت عطاءً من الله ، فبدأ بالسمع ، ثم البصر ، ثم ترقى في العطاء إلى الفؤاد ، لكن هنا المقام مقام سلب لهذه النعم ، فيسلب الأهم أولاً ، فأتى بالفؤاد ثم السمع ثم الأبصار . لكن أي شيء أبصروه ؟ وأي شيء سمعوه في قولهم { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا … } [ السجدة : 12 ] ؟ أول شيء يبصره الكافر يوم القيامة { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ … } [ النور : 39 ] وحده سبحانه ليس معه شريك من الشركاء الذين عبدوهم في الدنيا ، وليس لهم من دونه سبحانه وليٌّ ، ولا شفيع ، ولا نصير . ومعنى { وَسَمِعْنَا … } [ السجدة : 12 ] أي : ما أنزلته يا رب على رسولك ، ونشهد أنه الحق وصدَّقنا الرسول في البلاغ عنك ، وأنه ليس مُفْترياً ، ولا هو شاعر ، ولا هو ساحر ، ولا هو كاذب . لكن ، ما فائدة هذا الاعتراف الآن ؟ وبماذا ينفعهم وهو في دار الحساب ؟ لا في دار العمل والتكليف ؟ ! وما أشبه هذا الاعتراف باعتراف فرعون قبل أنْ يغرق : { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ … } [ يونس : 90 ] لذلك ردَّ الله عليه : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 91 ] . فقولهم : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا … } [ السجدة : 12 ] إقرار منهم بأنهم كانوا على خطأ ، وأنهم يرغبون في الرجوع إلى الصواب ، كما قال سبحانه في موضع آخر : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ … } [ المؤمنون : 99 - 100 ] ، وردَّ الله عليه : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } [ المؤمنون : 100 ] . ثم كشف حقيقة أمرهم : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] . وهنا يقولون : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] وهل يكون اليقين في هذا الموقف ؟ اليقين إنما يكون بالأمر الغيبي ، وأنتم الآن في اليقين الحسيِّ المشَاهدَ ، فهو إذن يقين لا يُجدى . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا … } .