Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 13-13)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هنا قد يسأل سائل : لماذا جعل الله الناسَ : مؤمناً وكافراً ، وطائعاً وعاصياً ؟ لماذا لم يجعلنا جميعاً مهتدين طائعين ؟ أهذا صعب على الله سبحانه ؟ لا ، ليس صعباً على الله تعالى ، بدليل أنه خلق الملائكة طائعين مُنفِّذين لأوامره سبحانه { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . كذلك الأرض والسماء والجبال … إلخ ، كلها تُسبِّح الله وتعبده { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] . وقال : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] ، وبعد ذلك يعطي الله تعالى لبعض خَلْقه معرفة هذا التسبيح ، كما قال في حق داود عليه السلام : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ … } [ الأنبياء : 79 ] . نعم ، هي تُسبِّح أيضاً مع غير داود ، لكن الميزة أنها تشترك معه في تسبيح واحد ، كأنهم كورس يرددون نشيداً واحداً . وعرفنا في قصة الهدهد وسليمان - عليه السلام - أنه كان يعرف قضية التوحيد على أتمِّ وجه ، كأحسن الناس إيماناً بالله ، وهو الذي قال عن بلقيس ملكة سبأ : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 24 ] . وقال { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] . والحق - سبحانه وتعالى - حينما يريد أنْ يُدلِّل لخَلْقه على قدرته يجعل من الضعف قوة ، ومن القوة ضعفاً ، وانظر إلى حال المؤمنين الأوائل ، وكم كانوا أذلة مستضعفين ، فلما أسلموا رفعهم الله بالإسلام وجعلهم سادة . ومشهورة قصة الصِّدِّيق أبي بكر لما أَدخل عليه المستضعفين أمثال : عمار وبلال … وترك صناديد قريش بالباب ، فعاتبه أبوه على ذلك : كيف يُدخِل العبيد ويترك هؤلاء السادة بالباب ؟ فقال أبو بكر : يا أبي ، لقد رفع الإسلام الخسيسة ، وإذا كان هؤلاء قد ورمتْ أنوفهم أن يدخل العبيد قبلهم ، فكيف بهم حين يُدخِلهم اللهُ الجنةَ قبلهم ؟ وعجيب أن يصدر هذا الكرم من الصِّدِّيق أبي بكر ، مع ما عُرِف عنه من اللين ورِقَّة القلب والحلم . وهذا لون من تبديل الأحوال واجتماع الأضداد ، وقد عرض الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29 - 30 ] يعني : يسخرون منهم ويهزأون بهم ، كما نسمع من أهل الباطل يقولون للإنسان المستقيم خدنا على جناحك . وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد ، إنما إذا عادوا إلى أهلهم كرروا هذا الاستهزاء ، وتبجحوا به ، وفرحوا لإيذائهم لأهل التقوى والاستقامة : { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } [ المطففين : 31 - 33 ] لكن يُنهي الحق سبحانه هذا الموقف بقوله : { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } [ المطففين : 34 - 35 ] ثم يسألهم الله { هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 36 ] . فهنا يقول الحق سبحانه : لا تفهموا أن أحداً تأبى عليَّ ، من خَلْقي ، إنما أردتُ لهم الاختيار ، ثم أخبرتهم بما أحبّ أنْ يفعلوه ، فيريد الله أن يعلم علم وقوع بمَنْ آمن به ، وهو يملك ألاَّ يؤمن . وإلا فهو سبحانه عالم أزلاً ليكون الفعل حجة على أصحابه ، إذن : إياك أنْ تظنَّ أنك باختيارك كسرت قهر العلى . وسبق أنْ قُلْنا : إن الذين أَلِفوا التمرد على الله إيماناً به ، فكفروا وتمردوا على طاعته فعصوه … إلخ نقول لهم : ما دُمْتم قد تعودتم التمرد على أوامر الله ، فلماذا لا تتمردون على المرض مثلاً أو على الموت ؟ إذن : أنت عبد رغم أنفك . يقول سبحانه هنا : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا … } [ السجدة : 13 ] أي : لَجعل الناس كالملائكة ، وكالمخلوقات المسيَّرة التي لا اختيار لها ، وسبق أنْ قُلْنا : إن المخلوقات كلها خُيِّرت في حمل الأمانة ، وليس الإنسان وحده ، لكن الفرق أن ابن آدم أخذ الاختيار مُفصَّلاً ، وبقية الخَلْق أخذوا الاختيار جملة ، بدليل قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . ومعنى الهداية في { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا … } [ السجدة : 13 ] أي : هدى المعونة ، وإلا فقد هدى اللهُ جميعَ الناس هُدى الدلالة على طريق الخير ، فالذي اخذ بهدى الدلالة وقال على العين والرأس يأخذ هدى المعونة ، كما قال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . ولكي نفهم الفرق بين الهديين ، اقرأ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ … } [ فصلت : 17 ] أي : دللناهم وأرشدناهم { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ … } [ فصلت : 17 ] . ثم يقول سبحانه : { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] . الحق سبحانه يريد أنْ يثبت لخَلْقه أنه هو الأَوْلَى بالحكمة في الخَلْق ، بدليل أن الذي يشذ عن مراد الله لا بُدَّ أن يفسد به المجتمع ، كما نرى المجتمعات تشقى بكفر الكافر ، وبعصيان العاصي . والحق سبحانه يترك الكافر يكفر باختياره ، والعاصي يعصي باختياره ليؤذي الناس بإثم الكافر وبإثم العاصي ، وعندها يعودون إلى تشريع الله ويلجئون إلى ساحته سبحانه ، ولو أن الناس عملوا بشرع الله ما حدث فساد في الكون ولا خَلَلٌ في حياتهم أبداً . لذلك نفرح حينما ينتقم الله من أهل الكفر ومن أهل المعصية ، ونقول : الحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد . إذن : مخالفة منهج الله في القمة كفراً به سبحانه ، وفي غيرها معصية لأمره هو الذي يبين مزايا الإيمان وحلاوة التشريع . وقلنا : إن التشريع يجب أنْ يأخذه المكلَّف أَخْذاً كاملاً بما له وبما عليه ، فالله كلَّفك ألاَّ تسرق من الناس ، وكلَّف الناسَ جميعاً ألاَّ يسرقوا منك . ومعنى { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي . . } [ السجدة : 13 ] أي : وقع وثبت وقُطع به ، ويأتي هذا المعنى بلفظ سبق ، كما في { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 171 ] وفي قصة نوح عليه السلام : { فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ … } [ المؤمنون : 27 ] . وقال تعالى حكاية عن الكفار في حوارهم يوم القيامة : { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ } [ الصافات : 31 ] . ومعنى { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] عرفنا أن الله تعالى خلق الجنة ، وخلق لها أهلاً يملأونها ، وخلق النار وخلق لها أهلاً يملأونها ، فليس فيهما أزمة أماكن ، فالجنة أُعِدَّتْ لتسع جميع الخَلْق إنْ آمنوا ، وكذلك النار أُعِدَّتْ لتسع الخَلْق جميعاً إنْ كفروا . لذلك حين يذهب أهل الجنة إلى الجنة يرثون أماكن أهل النار فيها ، كما قال سبحانه : { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] . والجِنَّة : أي الجِنّ والعفاريت . ثم يقول الحق سبحانه : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ … } .