Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 26-26)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق - سبحانه وتعالى - تكلم عن الرسالة التي أرسل بها رسوله صلى الله عليه وسلم ليؤكد في الناس عقيدة أعلى ، وهي عقيدة الوجود للإله الواحد الذي لا شريك له ، ثم بيَّن أن لنا مع الله لقاء آخر حين تنتهي هذه الدنيا الفانية ، ثم نستقبل حياة خالدة ، إما إلى جنة إنْ شاء الله ، وإما إلى نار ونعوذ بالله . والحق سبحانه حين يعرض آياته في الكون يعرضها لتثبت أنه هو الذي خلق هذه الآيات العجيبة ، فلم يتركنا سبحانه ننظر وننصرف إنما لفتنا ونبَّهنا إلى وجوب النظر إلى آياته في الكون ، وحين يأتي مَنْ يريد أنْ يُنبه عقلك فاعلم أنه لا يريد أنْ يخدعك ، أو أن يأخذك على غرَّة ، فربك يقول لك : استقبل كلامي هذا بمنتهى التدُّبر والتذكُّر والتعقُّل . ولو لم يكُنْ واثقاً من أنه سيصل بالتدبُّر والتعقُّل والتذكر إلى الغاية التي يريدها لما نبَّه عقلَك لآياته ، كما ترى عارض السلعة الجيدة الواثق من جودتها يعرضها عليك ، ويكشفها لك ، ويدعوك إلى فحصها وتأمُّل ما فيها ، فهو لا يفعل ذلك إلا لثقته في بضاعته وأنها ستنال رضاك . أما صاحب السلعة المغشوشة فيخدعك ويسلك معك أساليب اللفِّ والدوران والتغرير ، فحين تدهب مثلاً لشراء حذاء وجاء ضيقاً يقول لك : سيتسع بعدما تمشي فيه ، فإنْ جاء واسعاً يقول لك : أحضر لك واحداً أوسع ؟ ليوهمك أنه ضيِّق ، وأساليب هؤلاء مكشوفة لا تخفى على أحد ، فالذي يريد أنْ يغشَّ أو يخدع يلف القضايا ليسترها عن عقلك المتدبر المتذكر المتمعن . أما الحق سبحانه ، فكثيراً ما قال في قرآنه : أفلا يسمعون ، أفلا يعقلون ، أفلا يتدبرون القرآن لذلك من مصلحة الدعوة أنْ يتعقلها الناس ، وأن يتدبروها ، في حين أن بعض أصحاب الديانات الأخرى يقول لك حين تناقشه : أبعِدْ العقل عن هذه المسألة ، لماذا ؟ لأنه واثق أنها لو بُحثَتْ بالعقل لردها العقل ولم يقبلها - والحق سبحانه يريد ألاَّ يترك عذراً لأحد في البلاغ ، فالدعوة قد بلغتْ الجميع بلاغاً سليماً واضحاً ، تلك آيات الله في الكون . ثم يأتي الحق سبحانه بآيات معجزة ليثبت صِدْق الرسول ، فيجعلها تخالف نواميس الكون فيما نبغ فيه القوم ليقطع عليهم الحجة ، ثم يأتي بآيات الأحكام التي تحمل المنهج بافعل ولا تفعل ، ويُبيِّن أنَّ صلاح حركة الحياة في تطبيق هذا المنهج ويترك للمخالفات أن تُظهِر بعض العيوب ، فإذا ما نظرتَ إلى عيب أو عورة في المجتمع عرفتَ أنها نتيجة طبيعية لمخالفة منهج الله ، فكأن المخالفة ذاتها من مُؤكِّدات الحكم . ثم يُبيِّن سبحانه أنه أرسل رسلاً كثيرين من لَدُنْ آدم عليه السلام لأن الإنسان الذي هو خليفته في الكون تصيبه غفلة حين ينخرط في أسباب الدنيا ، وتأخذ عليه كل فكره وكل همه ، فينسى ما طلب الله منه ، فمن عادة الإنسان ألاَّ يتذكر إلاَّ ما ينفعه النفع العاجل . لذلك نجد كثيراً من الناس ينسى ما للناس عنده ، ويتذكر ما له عندهم . فالحق سبحانه يقول : أنا لم يَعُدْ لخَلْقي عندي حجة ، فقد نثرتُ لهم آيات الكون المُلْفتة ، وهي آيات واضحات لم يدَّعها أحد لنفسه ، ومع كثرة الملحدين والكافرين لم نَرَ أبداً من ادَّعى خَلْق الشمس أو القمر ، ولم يقُلْ أحد : إنني أُسيِّر الريح ، أو أُنبِت الزرع ، أو أُنزِل الماء من السحاب . والحق سبحانه يُنبهنا أيضاً : لا تنْس أيها الإنسان أنك خليفة لله في الأرض ، وإياك أنْ تظن أنك أصيل فيها ، فساعةَ تظن أنك أصيل في الدنيا يتخلى الله عنك ، ويتركك لنفسك فتهلك ، كما حدث لقارون حين وسَّع الله عليه في الدنيا ، فاغترَّ بما في يده ، وظن أنه من سعيه وعلمه وجهده . فكانت النتيجة { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ … } [ القصص : 81 ] لينبه الناس جميعاً أن المال ليس مال صاحبه ، إنما هو مُستْخلف فيه ، ولو كان ماله لحافظ عليه ، فالحق يردُّ الناس بالأحداث إلى طبيعة الفطرة الخلافية ، لأن فساد الكون يأتي من اعتبار الإنسان نفسه أصيلاً في الكون . وسبق أنْ قُلْنا : إن الإنسان إذا نظر في الكون نظرة فاحصة عادلة لَعلِم ما يأتي : أن كل شيء لم تتدخل فيه يَدُ الإنسان سليم ، ويؤدي مهمته على أكمل وجه ، وأن كل فساد في الكون إنما هو من تدخُّل الإنسان فيه بغير قانون ربه ، ولو تدخَّل فيه بقانون ربه لَصَلُحت له الأشياء التي تدخَّل فيها ، كما صَلُحَتْ له الأشياء التي لم يتدخل فيها . وقلنا : إنك إذا رأيتَ عواراً في الكون فاعلم أنه نتيجة حقٍّ مُضيَّع من حقوق الله ، فحين ترى فقيراً يتضوَّر جوعاً أو عرياناً لا يملك ما يستر عورته ، فاعلم أن الأغنياء قصَّروا في أداء حق الله في الزكاة لأن الله تعالى شرعها بحساب ، فلو أن القادر أخرج الزكاة المفروضة في ماله لما بقي في المجتمع المحيط به محتاج . ثم يريد منا الحق سبحانه أن نحافظ في نفوسنا على إيمان الفطرة ، وعلى الذرة الإيمانية الأولى التي لم تدخلها الشهوة ، ولم يخالطها النسيان ، هذه الذرة التي شهدت العهد الأول الذي قال الله فيه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 173 ] . أي : قبل أنْ تأخذكم شهوات الدنيا ونسيانها فتُنكروا هذه الشهادة ، وتقولون : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ الأعراف : 172 - 173 ] . فالذي يحافظ على هذه الذرة ، وعلى هذه اللمسة الربانية التي وضعها الله فيه بيده ، وعلى العهد الذي أخذه الله عليه يبقى له نور هذه الفطرة ، وتظل هذه النورانية متأججة في نفسه ، فإن أهملها طمستْها الذنوب والغفلة . لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا المثل فيقول : " تُعرض الأمانة - أي : التكاليف الاختيارية من الله - على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأيُّما قلب أُشْرِبها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء ، وأيُّما قلب أنكرها نُكِتت فيه نكتة سوداء حتى تكون على قلبين : أبيض مثل الصَّفا ، لا تضره فتنة ما دامتْ السماوات والأرض ، والآخر أسود مُربَاداً كالكوز مجَخَّياً ممقوتاً ، لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكراً " . فالطاعات أو الذنوب تتراكم على القلب كما تُصَفُّ عيدان الحصير عوداً بجوار عود ، فيبيضّ القلب بالطاعات ، أو يسودّ بالمعاصي . والإنسان منه مادة ومنه روح ، الروح في المادة تعطيها الحياة والحركة والفهم والفكر والتصرف ، وهما قبل أن يلتقيا كانا مُسبِّحَيْن لله تعالى ، فكل شيء في الوجود مُسبِّح { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] . وعلى الإنسان أنْ يفهم هذه الحقيقة ، وأن يحافظ على الطبيعة الإيمانية في ذراته ومكوناته لتظل مشرقة نيِّرة بنور الإيمان ، فإنْ غفل عن هذه الطبيعة حدثتْ الأغيار ، وحدث عدم الانسجام بين ذراته في الذات البشرية ، فحين تحمل إرادتُك الجسمَ والروحَ على المعصية يكرهك جسمك ، وتكرهك روحك لأنك خالفتَ منهج خالقها - عز وجل - فهي مُسبّحة عابدة وأنت لاهٍ غافل عَاصٍ لذلك تلعنك روحك وتلعنك أبعاضك . ومن رحمة الله بالعاصي أن ينام فترتاح أبعاضه ، وترتاح روحه من معاصيه ، وتأخذ راحتها في عبادة ربها ، حيث لا منازع لها ، ولا معاند من إرادة صاحبها ، لذلك يشعر الإنسان بالراحة عند النوم ، ويقوم منه نشيطاً لما حدث من انسجام وتعادل بين ذرات ذاته أثناء النوم . لذلك ورد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه لأن أبعاضه منسجمة دائماً في نومه وفي يقظته ، فإذا رأيتَ إنساناً يغلب عليه أنه مُنْهك القوى فاعرف أنه قد أتعب ذراته ، وأنها تودُّ الخلاص منه بالنوم ، وكأنها تقول له نَمْ فلم تَعْدُ صالحاً للتعايش معي . إذن : الحق سبحانه يُنبِّهنا دائماً من هذه الغفلة بواسطة الرسل ، ثم يترك سبحانه للرسالات التي سبقتْ أدلة تؤيد الرسل الموجودين ، وتعينهم على أداء مهمتهم لذلك يقول لنا : انظروا إلى الرسل الذين سبقوا ، وكيف كانت عاقبة المكذِّبين بهم . { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ … } [ السجدة : 26 ] كما قال سبحانه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } [ الفجر : 6 - 10 ] . فهذه الأهرامات التي يَفِد إليها الناس ، والتي تُعَدُّ مزاراً سياحياً هي آية من آيات الله تقوم دليلاً على هلاك أصحابها من المكذِّبين للرسل ، فالحق سبحانه لم يترك لأحد من خَلْقه عذراً بعد أنْ كشف له الآيات الكونية تشهد بوحدانيته تعالى وألوهيته ، والمعجزات التي تثبت صدق الرسول في البلاغ عن ربه ، ثم آيات الأحكام التي تحمل أقضية الحياة ، والتي لا يمكن لبشر أنْ يستدرك عليها ، والتي تحمل الحلَّ الشافي والدواء الناجع لكل داءات المجتمع . وبعد ذلك تركت لهم تكذيب المكذِّبين أمام أعينهم ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 - 138 ] . فها هي آثار عاد وثمود وغيرهم ما تزال شاهدةً عليهم ، بعضها فوق الأرض ، ومعظمها مطمور تحت طبقات الثَّرى لذلك نجد أن كل الآثار القديمة يجدونها في الحفريات تحت الأرض ، ولم لا وقد كانت العاصفة تهبُّ الهبَّة الواحدة ، فتبتلع القافلة بأكملها ، فما بالك بهبَّات الرياح من أيام عاد حتى الآن . إذن : خذوا عبرة من مصير هؤلاء . ومعنى { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ … } [ السجدة : 26 ] يهدي : أي : يدلُّ ويرشد ويُبيِّن ويُوضّح ، والهداية لها عناصر ثلاثة : هادٍ ومهديٌّ والشيء المهْدَى إليه ، ومادة : هدى تُستعمل في كتاب الله ثلاثة استعمالات : الأول : أنْ يُذكر الهادي ، وهو الله عز وجل ، والثاني : أن يُذكر المهديّ وهم الخَلْق ، والثالث : وهو أنْ يُذكر المهدى إليه ، وهي الغاية التي يريدها الله . وهذا الفعل يأتي مرة متعدِّياً بنفسه ، كما في سورة الفاتحة : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] أي : يا الله ، فالله هو الهادي ، ونحن المهديون ، والغاية هي الصراط المستقيم . ومرة يُعدَّى الفعل باللام ، كما في { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا … } [ الأعراف : 43 ] فلم يَقُلْ : هدانا هذا ، ومرة يتعدى بإلى كما في { … وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] . فتلحظ أن الهادي واحد وهو الله تعالى ، والمهديّ هو الخَلْق ، لكن المهْدَى إليه هو المختلف ، أما في هذه الآية فالأمر مختلف ، حيث يقول سبحانه : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ … } [ السجدة : 26 ] فلم تدخل اللام على المهْدى إليه ، إنما دخلتْ على المهدي ، فلم يقُلْ الحق سبحانه : أو لم يَهْدِ الله هؤلاء القوم لكذا . فلماذا ؟ قالوا : لأن بعض الناس يظنون أن الله حين يهدي إلى الطريق يُحمِّلك مشقات التكاليف لذلك نرى بعض الناس ينفرون من التكاليف ويروْنَ فيها عبئاً عليهم ، ومن هنا عبد بعضهم الأصنام ، وعبد بعضهم الشمس أو القمر … إلخ لأنها آلهة بدون منهج وبدون تكاليف ، ليس لها أوامر ، وليس عندها نَواهٍ ، وما أيسر أنْ يعبد الإنسان مثل هذه الآلهة التي لا مطلوبات لها . والذي يرى في التكاليف مشقة ، ويراها عبئاً عليه يراها كذلك لأنها تصادم مراد نفسه في الشهوات وتحدُّ من رغباته ، ومرادات النفس ربما أعطتْك لذة عاجلة ، لكن يعقبها حسرة وشر آجل . ومثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي يتحمل مشقة المذاكرة والدرس طمعاً في التفوق الذي ينتظر حلاوته ، وآخر يفضل اللذة السريعة العاجلة فيلعب ولا يهتم ، فيلاقي مذلَّة الفشل والاحتقار آخر العام . إذن : عليك أنْ تقرن بين مشقة العمل والنتيجة والثمرة التي تنالها من ورائه ، وعندها تهون عليك مشقة التكاليف لأن ما ينتظرك من الأجر عليها أعظم مما قدَّمتَ وأبقى . فالحق سبحانه يريد منا أنْ نُقبل على التكاليف ، ونعرف أنها لمصلحتنا نحن ، وأنها في الحقيقة تشريف لنا لا تكليف لأن الذي كلفني لا يحتاج مني إلى هذا ، ولا ينتفع من عبادتي بشيء ، بل هو سبحانه يتحنن إليَّ لأكون أهلا لإنعامه وجديراً بفضله وكرمه . ألم يقُلْ سبحانه : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] فالمسألة إذن منك وإليك ، فالله سبحانه له صفات الكمال قبل أنْ يخلق عباده . فاللام في { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ … } [ السجدة : 26 ] أي : لصالحهم ومن أجلهم ، وليس عليهم ، فالهدى لصالح المهدي لا الهادي ، ولو فهم الإنسان هذه الحقيقة وعرف أن الهداية راجعة إليه لَقبَّل يد مَنْ بلَغه عن الله هذا الفضل . ويؤكد هذا المعنى - لمن فطن - قوله تعالى عن المؤمنين : { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ … } [ لقمان : 5 ] فالهدى ليس حِمْلاً يحملونه ، إنما مطية يركبونها إلى الغاية النبيلة التي أرادها الله لهم . فما الذي بيَّنه الله للمؤمنين ودلَّهم عليه ؟ يقول سبحانه : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ … } [ السجدة : 26 ] أي : انظروا إلى المخالفين للرسل من قبلكم ، وكيف أخذهم الله فلم يُمكِّنهم من رسله ، بل انتصر الرسل عليهم . وكم هنا تفيد الاستفهام عن العدد ، وهي بمعنى كثير ، كما تقول لمن ينكر جميلك : كم أحسنتُ إليك أي : مرات كثيرة لا تُعَدُّ ، والمراد أننا بيَّنا لكم كثيراً من الأمم التي عادتْ رسلها ، وكيف كانت عاقبتهم وغايتهم التي انتهوا إليها : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] . ومن مصلحتنا أن يُبيِّن الله لنا عاقبة المكذبين لأنه ينبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه . وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن قوله تعالى - من سورة الرحمن : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 - 36 ] فاعتبر الشواظ والنار من النِّعم التي ينبغي ألاَّ نُكذِّب بها ، لماذا ؟ لأنه نبَّهنا إليها حتى لا نقع فيها . وقوله تعالى : { مِّنَ ٱلْقُرُونِ … } [ السجدة : 26 ] القرن حدده العلماء بمائة عام ، لكن هذه المائة تتداخل ، ويقترن فيها عدة أجيال يجتمعون على مذهب أو مبدأ واحد ، فالقرن يقرن بين الجد والابن والحفيد ، هذا إنْ أردتَ الزمن وحده ، فإنْ قُرِن الزمن بعصر دين من الأديان أو نبي أو ملك ، فقد يطول القرن إلى الألف عام ، كما في قرن نوح عليه السلام . فالقرن مرتبط بما قُرن به لذلك نقول : العصر الجاهلي ، عصر صدر الإسلام ، عصر بني أمية ، العصر العباسي ، عصر المماليك ، وما نزال حتى الآن نقول عن عصرنا : العصر الحديث . والحق سبحانه يبين لنا في الحياة التي نعيشها أن الزمن متغير ، إلى أعلى في الماديات ، وإلى أدنى في المعنويات ، فكلما تقدَّم الزمن انحلَّ الناس من رِبْقة الدين وتفلَّتوا منه ذلك لأن الارتقاءات المادية ينتج عنها حضارات تستهوي النفوس وتغريها ، والنتيجة انحدار في القيم وفي الدين ، ولو أن الارتقاء كان متساوياً لسار الأمران في خطين متوازيين . لذلك يقول تعالى : { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً … } [ يونس : 24 ] . ثم إنك لو نظرتَ إلى جزئيات الحضارة في الكون تجد أن الأمم صاحبة الحضارات لم تستطع أنْ تجعل لنفسها وقاية من اندحار حضارتهم ، ولم يستطيعوا صيانتها . حتى العصور التقدمية : كنا في العصر الحجري ، ثم عصر البخار ، ونحن الآن في عصر الفضاء . إذن : نحن مرتقون فقط في الماديات ، لكن منحدرون في المعنويات ، لكن هل هذا الارتقاء المادي جاء عن امتلاك لمعالم هدى الله في الأرض ؟ لا ، لأن الله تعالى بيِّن لنا : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . فأنا الذي أنزلتُ ، وأنا الذي ضمنتُ حفظه ، فلم أتركه لكم تحفظوه ، إذن : المسألة عن عجز منا ، وإلا فكتاب البداية موجود حجة علينا . وقوله تعالى : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ … } [ السجدة : 26 ] أي : أنني لا ألقى القضايا بدون حجة أو دليل ، بل هي شاخصة أمامكم تمرون بها ، وتروْنَها ليل نهار ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137 - 138 ] . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } [ السجدة : 26 ] فالله يحضُّهم على أنْ يستمعوا إلى سِيَر المكذِّبين المعاندين ، وما حاق بهم من انتقام الله منهم . وبالله : الإنسان مهما قَصُر عمره ، ألم يَرَ ظالماً ، وألم يَرَ مصرع هذا الظالم وعاقبة ظلمه ، فإنْ لم يَرَ ظالماً ألم يُحدَّث عنه ؟ إذن : مما يصلح حال الناس أنْ يستمعوا إلى حكايات عن الظالمين وعن نهايتهم ، وما ينزل بهم من الانتقام الذي لا ينتظر الآخرة ، بل يُعَجِّل لهم في الدنيا . وفي ذلك حكمة لله بالغة لأن الظالم ربما لا يرعوى ولا يرجع في الدنيا عن ظلمه ، فيظل يُعربد في الخَلْق ما أحياه الله ، لكن إنْ مسَّه شيء من العذاب ، فلربما عاد إلى رُشْده ، وإن لم يَعُدْ كان عبرة لغيره . لذلك قال أهل المعرفة : لن يموت ظلوم حتى ينتقم الله منه . وربما مَنْ رآه ظالماً يراه مظلوماً ، ومَنْ أراد أن يرى نهاية ظالم فلينظر إلى مصارع الظالمين قبله . وتأمل قول ربك : { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضاً … } [ الأنعام : 129 ] فكأن الظالم له رسالة ، هي أن ينتقم من ظالم مثله ، وهكذا يُهلك الله هؤلاء بعضهم ببعض لأن الخيِّر طيِّب القلب لا يؤدب ظالماً ، فإن اعتديتَ عليه غلب عليه طابع التسامح والعفو . ألم يَقُلْ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفار مكة : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " فكأن الله عز وجل يقول للخيِّر : اجلس أنت واسترح ، واترك الأشرار لي ، فسوف أرسل عليهم من هو أشرّ منهم ليؤدبهم . واختار الحق هنا حاسة السمع { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } [ السجدة : 26 ] لأنها وسيلة الإدراك المناسبة للموقف ، فبها نسمع ما يُحكَى عن الظالمين وبها نعتبر ، وفي موضع آخر سيقول { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } [ السجدة : 27 ] ويقول : { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } [ يس : 68 ] فيُنوِّع لنا ، ويُقلِّب كل وسائل الإدراك لينبهنا من خلالها . والمعنى { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } [ السجدة : 26 ] ما يُرْوَى لهم عن مصارع الظالمين ، لقد نبهناهم وذكَّرناهم ، ومع ذلك أشركوا وجعلوا سمعهم ودن من طين ، وودن من عجين .