Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 27-27)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أولاً لك أن تلحظ هنا توافق النسق القرآني بين صدر الآيات وعَجُزها ، ففي الآية السابقة قال سبحانه { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ … } [ السجدة : 26 ] أي : يدلُّ ويرشد ، والكلام فيها عن قصص تاريخي ، فناسبها { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } [ السجدة : 26 ] أما هنا فالكلام عن مشاهد مرئية ، فناسبها { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } [ السجدة : 27 ] فهذا ينبغي أنْ يُسمع ، وهذا ينبغي أنْ يُرى . وفي الآية السابقة قال سبحانه { أَهْلَكْنَا … } [ السجدة : 26 ] لنعتبر بإهلاك المكذبين في الماضي ، أما هنا فيلفتنا إلى آية من آياته في الكون ، فيأتي الفعل { نَسُوقُ ٱلْمَآءَ … } [ السجدة : 27 ] بصيغة المضارع الدالّ على التجدّد والاستمرار ، ففي كل الأوقات يسوق الله السحب ، فينزل منها المطر على الأرض الجرز أي : المجدبة ، فتصبح مُخضرة بأنواع الزروع والثمار ، وهذه آية مستمرة نراها جميعاً ، ولا تزال في الحال وفي الاستقبال ، ولأن هذه الآية واقعة الآن تحتاج منا المشاهدة والتأمل قال في ختامها { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } [ السجدة : 27 ] . وفي موضع آخر قال سبحانه : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ الكهف : 7 - 8 ] فالجُرُز هي الأرض المقطوع منها النبات ، إما لأن الماء شحَّ عليه فجفَّ ، وإما أنه استُحصد فحصدوه . ومعنى { نَسُوقُ ٱلْمَآءَ … } [ السجدة : 27 ] السَّوْق : حَثٌّ بسرعة لذلك تقول للذي يتعجلك ما لك سايقنا كده ، ومعلوم أن السَّوْق يكون من الوراء ، على خلاف القيادة ، فهي من الأمام ، فالذي تسوقه تسوقه وهو أمامك ، تراه فلا يتفلت منك ، ولو كان خلفك فهو عُرْضة لأنْ يهرب منك ، فلا تشعر به . والسَّوْق مرة يكون للسحاب ، كما في قول الله تعالى { وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ … } [ فاطر : 9 ] . ومرة يكون السَّوْق للماء نفسه كما في هذه الآية ، وسَوْق الماء له عدة مظاهر : فالله يسوق الماء من السحاب إلى الأرض ، فإذا نزل إلى الأرض ساقه في الأنهار ، أو سلكه ينابيع في الأرض ليحتفظ لنا به لحين الحاجة إليه . فربُّنا - عز وجل - جعل لنا خزانات للماء تحت الأرض ، لا لنحرم منه حين يوجد ، لكن لنجده حين يُفقد ، وكون الماء ينابيع في الأرض يجعلنا نتغلب على مشاكل كثيرة ، فالأرض تحفظه لنا ، فلا يتبخر ولا نحتاج إلى بناء السدود وغيرها ، مما يحفظ لنا الماء العَذْب . لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " مثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكان منها نقياً - أرض خصبة - قبلتْ الماء ، فأنبتت الكلأ والعُشْب ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فشرب الناس منه وسَقُوا أنعامهم وزروعهم ، وكان منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم " . فهذه أنواع ثلاثة من الأرض تمثل انتفاع الناس بالعلم ، فالأولى تمسك الماء ، وتُخرِج الزرع ، والثانية تمسك الماء حتى ينتفع الناس به ، ولك أن تسأل : فما فائدة الثالثة : القيعان التي لا تُمسِك ماء ، ولا تنبت كلأ ؟ ولماذا خلقها الله إذن ؟ نقول : هذه القيعان هي التي تسلك الماء في باطن الأرض ، وصدق الله : { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ] وقال سبحانه : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] . إذن : هذه القيعان لها مهمة يعرفها مَنْ فَطِن لهذه المسألة ، وإلا فالله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً أبداً ، كذلك يكون انتفاع الناس بالعلم ، فمنهم مَنْ نرى أثر علمه خيراً عاجلاً ، ومنهم مَنْ يتأخر نَفْع علمه للأجيال القادمة . ثم إياك أنْ تظن أنَّ الماء حين يسلكه اللهُ ينابيعَ في باطن الأرض يسيح فيها ، أو يحدث له استطراق سائلي يختلط فيه العذب بالمالح ، لا … إنما يسير الماء العَذْب في شبه أنابيب ومسارب خاصة ، يجدونها حتى تحت مياه الخليج المالحة . وهذه من عجائب الخَلْق الدالة على قدرة الخالق عز وجل ، وكما يوجد برزخ بين المائيْن على وجه الأرض { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19 - 20 ] كذلك هناك برزخ للماءين تحت الأرض . فالحق سبحانه يلفت أنظارنا إلى هذه الآية المشاهدة { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلْمَآءَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجُرُزِ … } [ السجدة : 27 ] نعم ، هذه آية نشاهدها جميعاً ، لكن المراد هنا مشاهدة تمعُّن وتذكّر وعظة وتعقُّل ، نهتدي من خلالها إلى قدرة الخالق عز وجل . وقوله سبحانه { أَنَّا نَسُوقُ … } [ السجدة : 27 ] فيه دليل على قيُّوميته تعالى على الخلق ، فإنْ كان سَوْق الماء يتم بواسطة الملائكة المكلفين به ، إلا إنه تعالى صاحب الأمر الأول والمتتبع لعملية تنفيذه . وقدَّم الحق سبحانه الأنعامَ على الإنسان في الأكل من الزرع ، مع أنها كلها مملوكة للإنسان لأن الأنعام في الغالب ما تأكل من الزرع ، وهو ما يزال أخضر لم ينضج بَعْد ، ليأكل منه الإنسان ، وأيضاً هو سبحانه حين يطعم الأنعام فإنما يطعم مَنْ جعله له فاكهة طعام ، وهي الأنعام . وأشرنْا إلى أن دِقَّة البيان القرآني اقتضتْ أنْ تختم هذه الآية المشاهدة بقوله تعالى : { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } [ السجدة : 27 ] لأن هذه مسألة تتعلق بالبصر . ولك أنْ تقرأ في مثل هذه الدقَّة قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 71 - 72 ] . فقال في الأولى { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [ القصص : 71 ] لأنها تتكلم عن آية الليل ، والسمع هو وسيلة الإدراك فيه ، وقال في الأخرى { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 72 ] لأنها تتكلم عن آية النهار ، والبصر هو وسيلة الإدراك في النهار ، إذن : نلحظ دقَّة الأداء وإعجازه لأن المتكلم إله ورب ، فلا بُدَّ أنْ تجد كل لفظة في مكانها المناسب . ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا … } .