Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 2-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مادة نزل وردتْ في القرآن بلفظ : نزل ، ونزَّل ، وأنزل ، أنزل تدل على التعدية ، يعني : أن الله تعالى عدَّى القرآن من اللوح المحفوظ ، إلى أنْ يباشر مهمته في السماء الدنيا ، وهذا الإنزال من الله تعالى . أما نزَّل فالتنزيل مهمة الملائكة لذلك يقول تعالى في الإنزال : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْر } [ القدر : 1 ] أي : من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم تتنزَّل به الملائكة مُنجَّماً حسب الأحداث ، وفي ذلك يقول تعالى : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] . ويقول سبحانه : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ … } [ الإسراء : 105 ] فقد كان محفوظاً عندنا في اللوح المحفوظ { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [ الواقعة : 79 ] ثم نزل به الروح الأمين جبريل . وما دام { نَزَلَ بِهِ … } [ الشعراء : 193 ] فهذا يعني أن القرآن نزل معه ، فقوله : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [ الشعراء : 193 ] تساوي تماماً { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ … } [ الإسراء : 105 ] . فالنزول يُنسَب مرة إلى القرآن ، ومرَّة إلى الروح الأمين . ومادة نزل وما يُشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه ، كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع ، وما دُمْتَ تتلقى من جهة أعلى منك ، فإيَّاك أنْ يضل بك الفكر لناحية أخرى . لذلك يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر التكليف : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ … } [ الأنعام : 151 ] فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعالَ . أي : أقبل ، لكنها تحمل مع هذا المعنى معنى العلو : أقبل دانياً إلى متعالٍ ، تعالَ من أوضاعك الرضية إلى عُلُو ربك في الملأ الأعلى . تعالَ يعني : لا تأخذ من نفسك ولا من مُسَاوٍ لك ، إنما ارتفع وخُذْ من الأعلى ، ارتفع عن مستوى الأرض وعقولهم وأفكارهم ، وخُذْ من الذي شرَّع لك لأنه لا بُدَّ أن تكون عنده أمور ومواصفات آمن لك وأسلم لأن علمه أوسع ، فلا يُشَرِّع لك اليوم ما ينقضه غداً . ثم إنَّ شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها ، وهذه المواصفات لا تكون إلا في الحق - تبارك وتعالى - وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها ، فلا يُشرِّع لك إلا ما يُصلحك ، ثم هو سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع ، كما نرى في تشريعات البشر للبشر . وقد رأينا الرأسماليين حينما شرّعوا قانوناً جاء يخدمهم ، وليكونوا هم أول المنتفعين به لذلك سرعان ما تهاوى لأن شرط المشرِّع الحق ألاَّ ينتفع هو بما يُشرِّع ، وعليه فلا مشرِّع حقٍّ إلا الله . لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بالله من الكافرين أو المشركين بعد أنْ تعضَّهم الأحداث ، وتخفق قوانينهم في حَلِّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين الإسلام . ولما سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 33 ] وفي موضع آخر { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ] . قالوا لنا : هذا يعني أن الإسلام ظاهر على الأديان منذ أربعة عشر قرناً من الزمان ، فما بالنا نرى الآن أكثر أهل الأرض من غير المسلمين ؟ فقلت في الرد عليهم : والله لو فهمتُم أسرار اللغة ، وتأملتُم هذه الآية لوجدتم أن الرَّد فيها ، فواحدة تقول : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ] ، والأخرى تقول { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 33 ] . إذن : فالكفر والشرك موجودان مع وجود الإسلام ، وليس معنى الظهور هنا أن يطمس هؤلاء ، أو أنْ يُقْضَى عليهم قضاء مبرماً ، إنما يظهر عليهم بحيث يُضطرون إليه ، ويلجئون إلى أحكامه ، رغم عدم إيمانهم به ، وهذا أبلغ في الظهور ، أنْ تأخذ بما في القرآن وأنت غير مؤمن به لأنك لا تجد حلاً لقضاياك إلا فيه . وأوضح مثال على ذلك أنهم هاجموا شرع الله في مسألة الطلاق ، وفي مسألة تعدُّد الزوجات ، واتهموا الإسلام بالوحشية … إلخ ، ثم تضطرهم أقضية الحياة ومشاكلها أنْ يشرِّعوا الطلاق ، وأنْ يأخذوا به على مرأى ومَسْمع من الفاتيكان ، فماذا جرى ؟ فنقول لهم : هل أسلمتم وآمنتم ؟ لا ، إنما لجأنا إليه لأن فيه الحل لهذه المشاكل التي أحاطتْ بنا . فهذه إذن شهادة العدو لدين الله ، وهذا هو أعظم الإظهار للإسلام على هذه الأديان لأنهم لو أسلموا لقالوا عنهم : أخذوا بهذا الشرع لأنهم أسلموا ، إنما ها هم يأخذون به وهم به كافرون مشركون . ومعنى { لاَ رَيْبَ فِيهِ … } [ السجدة : 2 ] أي : لا شكَّ فيه ، وقلنا : إن النسب في القضايا . أي نسبة شيء لشيء إما مجزوم بها أو غير مجزوم بها ، فلو قُلْنا : الأرض كروية هذه قضية جزم بها الآن ، ونستطيع التدليل على صحتها دليلاً حسياً ، فهذه قضية واقعة ومجزوم بصحتها ، وعليها دليل في الكون . فإنْ كانت القضية غَيْرَ مجزوم بها ، فهي بين ثلاث حالات : إما فيها شكّ ، أو ظنّ ، أو وهم : الشك أنْ تتساوى الكِفَّتان : الإثبات والنفي ، والظن أن تغلب جانب الإثبات فلا تجزم به إنما ترجِّحه ، فإنْ غلَّبْتَ الأخرى وجعلتها هي الراجحة ، فهذا توهم . وهنا قال سبحانه { لاَ رَيْبَ فِيهِ … } [ السجدة : 2 ] لا شكَّ فيه ، فنفى الشكَّ ، وهو تساوي النفي والإثبات ، وما دام قد نفى التساوي ، فهذا يعني أنه أراد أنْ يثبت الأعلى . أي : أنه حقٌّ لا يرقى إليه الشك . وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ … } [ السجدة : 2 ] جملة اعتراضية بين { ٱلْكِتَابِ … } [ السجدة : 2 ] ، وبين { مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ السجدة : 2 ] وما دام أنه { مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ السجدة : 2 ] فلا بُدَّ أنه حقٌّ لا ريب فيه . ثم يقول الحق سبحانه : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ بَلْ … } .