Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 3-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عجيب أنْ يقابلَ العربُ كلامَ الله بهذا الاتهام ، وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان ، وقد بلغوا في هذا شأناً عظيماً ، حتى جعلوا للكلام معارض وأسواقاً ، كما نقيم الآن المعارض لمنتجاتنا ، ولا يُعرض في المعارض هذه إلا السلع الجيدة محلّ الفخر ، فقبل الإسلام كان في عكاظ وذي المجاز مضمار للقول وللأداء البياني بين الأدباء والشعراء . فعجيبٌ منهم ألاَّ يميزوا كلام الله عن كلام البشر ، خاصة وقد تحدَّاهم وتحدَّى فصاحتهم وبلاغتهم أنْ تأتي بآية واحدة من مثله ، ومعلوم أن التحدي يكون للقوي لا للضعيف ، فتحدَّى القرآن للعرب يُحسَبُ لهم ، وهو اعتراف بمكانتهم ومكانة لغتهم ، فهو - إذن - شهادة لهم ، ويكفيهم أن الله تعالى أدخلهم معه في مجال التحدي . ولما عجزوا عن الإتيان بمثله راحوا يتهمونه ويتهمون رسول الله ، فمرة يقولون : شاعر ، ومرة : ساحر ، وأخرى يقولون : مجنون ، ومرة يقولون : بل يُعلِّمه ذلك أحد الأعاجم … إلخ ، وهذا كله إفلاس في الحجة ، فهم يريدون أنْ يُكذِّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما القرآن في حدِّ ذاته ، فلا يَخْفى عليهم أنه كلام الله ، وأن البشر لا يقولون مثل هذا الكلام ، بدليل أن الوليد بن المغيرة لما سمعه قال : " والله ، إن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغْدِق ، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه " . لذلك لما لم يجدوا في القرآن مطعناً اعترفوا بأنه من عند الله ، لكن كان اعتراضهم أنْ ينزل على هذا الرجل بالذات : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] فكانوا ينتظرون أنْ يُنزَّل القرآن على عظيم من عظمائهم او مَلِك من الملوك ، لكن أنْ ينزل على محمد هذا اليتيم الفقير ، فهذا لا يُرضيهم ، وقد ردَّ القرآن عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ … } [ الزخرف : 32 ] . يعني : إذا كنا قد قسمنا بينهم أمور الدنيا وما يتفاضلون به من عرضها ، فهل نترك لهم أمور الآخرة يُقسمونها على هواهم وأمزجتهم ؟ والرسالة رحمة من الله يختصُّ بها مَنْ يشاء من عباده { وٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ … } [ الأنعام : 124 ] . وهذا يعني أنهم انتهوا إلى أن القرآن مُعْجِز ، وأنه من عند الله لا غُبَار عليه ، والذي قرأه منهم ، وأيقن أنه حق قال : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . وهذا الكلام لا يقول به عاقل ، وقد دلَّ على غبائهم وحُمْقهم ، وكان الأَوْلَى بهم أنْ يقولوا : اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهْدِنا إليه . وقد ردَّ القرآن على كل افتراءاتهم على رسول الله ، وفنَّدها جميعاً ، وأظهر بطلانها ، لما قالوا عن رسول الله إنه مجنون ردَّ الله عليهم : { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 1 - 4 ] . والمجنون لا يكون أبداً على خلق عظيم لأنه محكوم بالغريزة لا يختار بين البدائل والتصرفات كالحيوان ، ولا ينشأ عن ذلك خُلق كريم . أما الإنسان السَّويُّ فإنه يختار بين البدائل المتعددة ، فلو اعتدى عليه إنسان فقد يردُّ عليه . بمثل هذا الاعتداء ، وقد يفكر في المثلية ، وأن اعتداءه قد يزيد فيميل إلى التسامح ، واحد يكظم غيظه وآخر يزيل كل أثر للغيظ ، ويبغى الأجر على ذلك من الله ، عملاً بقوله تعالى : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ … } [ النور : 22 ] وكأن الله يشجعنا على عمل الخير . لذلك لما سُئِل الحسن البصري : كيف يطلب الله مِنَّا أنْ نُحسن إلى مَنْ أساء إلينا ؟ قال : هذه مَرَاقٍ في مجال الفضائل ، وقد أباح الله لك أنْ تردَّ الإساءة بمثلها { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا … } [ الشورى : 40 ] لكن يترك الباب مفتوحاً أمام أريحية النفس المؤمنة { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ … } [ الشورى : 40 ] . ثم إذا حسبنا هذه المسألة بمقاييس العقل ، فإن الخَلْق كلهم عيال الله ، وهم عنده سبحانه سواء ، فماذا لو اعتدى أحد عيالك على الآخر ؟ لا شكَّ أنك ستكون في جانب المظلوم ، فتأخذه في حضنك وترعاه وتعطف عليه ، وكذلك الحق - تبارك وتعالى - يكون في جانب عبده إذا ظلم . وقد قال أحدهم : ألاَ أُحسن إلى مَنْ جعل الله في جانبي ؟ من هنا يقولون : أنت لا تكسب كثيراً من الأخيار ، إنما كل كسب لك يأتي من الأشرار حين يسيئون إليك وتحسِن إليهم لذلك يقولون : فلان هذا رجل طيب ، لكن مَنْ يمشي معه لا يستفيد منه حسنة أبداً ، لماذا ؟ يقولون : لأنه خادم للجميع ، وجعل خدَّه مداساً لمن معه ، فلا يجعل أحد يستفتح منه بحسنة . ورُوي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبسَّم في مجلس مع أصحابه ، فقالوا : ما يُضحكك يا رسولَ الله ؟ فقال : " رأيتُ ربي ، وقد أجلس بين يديه خَصْمين ، فقال أحدهما : يا ربِّ إن هذا ظلمني فخُذْ لي حقِّي منه ، فقال : كيف آخذ لك حقك منه ؟ قال : أعطني من حسناته بقدر ما أساء إليّ ، فقال : ليست له حسنات ، فقال : فخُذْ من سيئاتي واطرح عليه ، فقال أَوَيرضيك ألاَّ تكون لك سيئة ؟ قال : إذن ، يا رب كيف أقضي حقي منه ؟ قال : انظر يمينك ، فنظر الرجل يمينه ، فوجد قصوراً وبساتين وجِنَاناً ، مما لا عَيْنٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر ، فقال : لمَنْ هذه يا ربِّ ؟ قال : لمن يدفع ثمنها ، فقال : وما ثمنها يا رب ؟ قال : أنْ تأخذَ بيد أخيك إلى الجنة ، فعجبتُ من رَبٍّ يُصِلح بين عباده " . هذا عن قولهم عن رسول الله : مجنون ، أما قولهم : ساحر . فالردُّ عليها ميسور ، فإذا كان محمد ساحراً ، سحر مَنْ آمن به ، فلماذا لم يَسْحركم أنتم أيضاً ؟ فكونكم سالمين من السحر دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ليس ساحراً ، بل هذا كذب وافتراء على رسول الله . أما قولهم : شاعر ، فهذا عجيب منهم ، وهم أمة كلام وبلاغة ، وهم أكثر خَلْق الله تمييزاً للشعر من النثر ، وخير مَنْ يفرق بين الأساليب وطرق الأداء ، وقد تولى الله تعالى الردَّ عليهم ، فقال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ … } [ يس : 69 ] . وفي سورة الحاقة ، يقول سبحانه : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الحاقة : 41 - 42 ] . فلما خابتْ كُلُّ هذه الحيل ، وكذبتْ كل هذه الافتراءات قالوا : بل له شيطان يُعلِّمه ، وكانوا يقولون ذلك للشاعر البليغ الذي لا يُشَقُّ له غبار في الفصاحة وحُسْن الأداء ، حتى جعلوا لهؤلاء الجن مكاناً خاصاً بهم ، فقالوا وادي عبقر ، وهو مسكن هؤلاء الجن الذين يُلْهِمون البشر ويُعلِّمونهم . والشعر كلام موزون مُقفَّى ، وله بحور معروفة ، فهل القرآن على هذه الشاكلة ؟ لا ، إنما هو افتراء على رسول الله ، كافترائهم عليه هنا : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ … } [ السجدة : 3 ] . فقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ … } [ السجدة : 3 ] أم تعني أن لها مقابلاً : يعني : أيقولون كذا ؟ أم يقولون : افتراه ، فماذا هذا المقابل ؟ المقابل { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ السجدة : 2 ] فالمعنى : أيُصدِّقون بأن هذا الكتاب من عند رب العالمين ، وأنه لا رَيْبَ فيه ؟ أم يقولون افتراه محمد ، فأَمْ هنا جاءت لتنقض ما يُفهَم من الكلام السابق عليها . وقوله : { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ … } [ السجدة : 3 ] نعرف أن بل تأتي للاستدراك ، لكنها هنا ليست للاستدراك ، إنما لإبطال قولهم : { ٱفْتَرَاهُ … } [ السجدة : 3 ] كما لو قُلْت : زيد ليس عندي بل عمرو ، فأفادتْ الإضراب عما قبلها ، وإثبات الحكم لما بعدها ، وهم يقولون افتراه والله يقول : { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ … } [ السجدة : 3 ] فكلامهم واتهامهم باطل ، والقرآن هو الحق من عند الله . وقُلْنا : إن { ٱلْحَقُّ … } [ السجدة : 3 ] هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير لذلك فالحقائق ثابتة لا تتغير أبداً ، كيف ؟ هَبْ أن حادثة وقعتْ نتج عنها مُدَّع ومُدَّعىً عليه وشهود ، واجتمعوا جميعاً أمام القاضي ، وقد يحدث أن يُغيِّر أحدهم أقواله ، أو يشهد الشهود شهادة زور . لكن خبرة القاضي ودُرْبته تكشف الحقائق وتُظهِر كذبهم حين يضرب أقوال بعضهم ببعض ، ويسألهم ويحاورهم إلى أنْ يصل إلى الحقيقة ذلك لأن الواقع شيء واحد ، ولو أنهم يصفون واقعاً لاتفقوا فيه ، ولباقة القاضي هي التي تُظهِر الباطل المتناقض وتُبطِله وتُحِقّ وتغلب الحق الذي لا يمكن أن يتناقض . كالقاضي الذي اجتمع أمامه خَصمْان ، يدَّعي أحدهما على الاخر أنه أخذ منه مالاً ولم يردّه إليه ، فقال المدَّعَي عليه : بل رددته إليه في مكان كذا وكذا ، فأنكر المدَّعي ، فقال القاضي للمدَّعَى عليه : اذهب إلى هذا المكان ، فلعل هذا المال وقع منك هناك ، فذهب الرجل وأبطأ بعض الوقت ، فقال القاضي للمدعي : لقد أبطأ صاحبك ، فقال : أبطأ لأن المكان بعيد ، فوقع في الحقيقة التي كان ينكرها . ثم يقول سبحانه : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ … } [ السجدة : 3 ] ومعلوم أن سيدنا رسول الله جاء بشيراً ونذيراً ، لكن خصَّ هنا النذير لأنه جاء ليصلح معتقدات فاسدة ، وإصلاح الفاسد لا بُدَّ أن يسبق ما يُبشر به ، ولم يأْتِ ذكر البشارة هنا لأنهم ما سمعوا للنذارة ، وما استفادوا بها . لكن قوله تعالى : { مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ … } [ السجدة : 3 ] تصطدم لفظياً بقوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] وقوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وليس بين هذه الآيات تناقض لأن المعنى : ما أتاهم من نذير قريب ، ولا مانع من وجود نذير بعيد ، كما قال تعالى : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ … } [ المائدة : 19 ] . وإلا ، فمن أين عرفوا أن الله تعالى خالق السماوات والأرض ، كما حكى القرآن عنهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ … } [ لقمان : 25 ] فهذا أثر من آثار الرسل السابقين ، كما كان فيهم أناس متبعون لمنهج الدين الحق ، والذين سماهم الله الحنفاء ، وهم الذين لم يسجدوا لصنم ، ولم ينحرفوا عن الفطرة السوية . وقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ السجدة : 3 ] لعل تفيد الرجاء ، والرجاء من الله كأنه واقع متحقق لأن الله تعالى يحب لعباده جميعاً أنْ يؤمنوا به ليأخذوا جميل عطائه في الآخرة ، كما أخذوا عطاءه في الدنيا ، وهم جميعاً خَلْقه وصَنْعته ، وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي : " … دعوني وما خلقت ، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم ، وإنْ لم يتوبوا إلىَّ فأنا طبيبهم … " . ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي … } .