Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 4-4)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يخبرنا الحق - تبارك وتعالى - أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما لخدمة الإنسان ، وهو المكرَّم الأول في هذا الكون ، وجميع الأجناس في خدمته حيواناً ونباتاً وجماداً ، فهو سيد في هذا الكون ، لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله ؟ لا إنما أخذها بفضل الله عليه ، فكان عليه أولاً أنْ يشكر مَنْ أعطاه هذه السيادة على غيره . وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور ، فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت ، في حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره ، وهي خادمة له ، فكان لزاماً عليه أنْ يتأمل هذه المسألة : كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم ؟ إذن : لا بد أن لي عمراً آخر أطول من هذا ، عمراً يناسب تكريم الله لي ، ويناسب سيادتي في هذا الكون ، إنها الآخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا ، لا أعيش مع الأسباب ، إنما مع المسبب سبحانه ، فلا أحتاج إلى الأسباب التي خدمتني في الدنيا ، إنما أجد كل ما أشتهيه بين يديَّ دون تعب ودون سَعْي ، وهذه ارتقاءات لا تكون إلا لمَنْ يطيع المرقى المعطي . لذلك ، الحق - سبحانه وتعالى - يلفتنا ويقول : صحيح أنت أيها الإنسان سيد هذا الكون وكل مخلوقاتي في خدمتك ، لكن خَلْقها أكبر من خَلْقك : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] . لماذا ؟ لأن للناس أعماراً محددة ، مهما طالت لا بُدَّ أن تنتهي إلى أجل ، ثم إن هذه الأعمار لا تَسْلم لهم ، إنما تنتابها الأغيار ، فالغنيّ قد يفتقر ، والصحيح قد يمرض ، والقوي قد يضعف ، أمّا الشمس والقمر والنجوم والكون كله فلا يتعرض لهذه الأغيار فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم أصابتها علة وانتهت كانتهاء الإنسان ، ثم أنتَ لستَ مثلها في العظمة المستوعبة لأن قصارى ما فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك ، أمَّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله . فإذا أقرَّ - حتى الكفار - بأن الله تعالى هو خالق السماء والأرض إذن : فهي دليل أول على وجود الحق تبارك وتعالى . ومسألة خَلْق السماوات والأرض من الأشياء التي استأثر الله بعلمها وليس لأحد أنْ يقول : كيف خُلِقت ولا حتى كيف خُلق الإنسان لأن مسائل الخَلْق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها لذلك يقول تعالى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . فسماهم الله مُضلِّين ، والمضِلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل ، ويصرفك عن الحق ، وقد رأينا فعلاً هؤلاء المضلِّين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض . إذن : خَلْق السماوات والأرض مسألة لا تُوخَذ إلا ممَّنْ خلق لذلك قَصَّ لنا ربنا - تبارك وتعالى - قصة خَلْق آدم ، وقصَّ لنا قصة خلق السماوات والأرض ، لكن الخَلْق حدث وفعل ، والفعل يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله ، والإشكال هنا في قوله تعالى { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . } [ السجدة : 4 ] . فهل الحدث بالنسبة لله تعالى يحتاج إلى زمن ؟ الفِعْل من الإنسان يحتاج إلى علاج يستغرق زمناً ، حيث نوزع جزئيات الفعل على جزئيات الزمن ، أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بلا علاج للأمور ، إنما يقول : للشيء كن فيكون ، أما قوله تعالى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ … } [ السجدة : 4 ] فقد أوضحناها بمثال ، ولله المثل الأعلى . قلنا : أنت حين تصنع الزبادي مثلاً تأتي بالحليب ، ثم تضع عليه خميرة زبادي سبق إعداده ، ثم تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحوَّل إلى زبادي ، فهل تقول : إن صناعة الزبادي استغرقت مني سبعاً أو ثماني ساعات ؟ لا ، إنها استغرقتْ مجرد إعداد المواد اللازمة ، ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض ، إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة . كذلك الحق - تبارك وتعالى - خلق السماوات والأرض بأمره كُنْ ، فتفاعلت هذه الأشياء مُكوِّنه السماوات والأرض . ومسألة خلق السماوات والأرض في ستة أيام عُولجت في سبع سور من القرآن ، أربع منها تكلمْن عن خلق السماوات والأرض ولم تتعرض لما بينهما ، وثلاث تعرضتْ لخَلْق السماوات والأرض وما بينهما ، ففي الأعراف مثلاً ، وفي يونس ، وهود ، والحديد . تعرضت الآيات لخلق السماوات والأرض فقط . وفي الفرقان والسجدة وق . فتكلَّمتْ عن البينية ، فكأن السماوات والأرض ظرف خُلِق أولاً ، ثم خُلِق المظروف في الظرف ، وهذا هو الترتيب المنطقي أنْ تُعِدَّ الظرف أولاً ، ثم تضع فيه المظروف . وقوله تعالى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ … } [ السجدة : 4 ] الله يخاطب بهذه الآيات العرب ، واليوم له مدلول عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر ، فكيف يقول سبحانه { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ … } [ السجدة : 4 ] ولم تخلق بعد لا الشمس ولا القمر ؟ نقول : المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الآن ، وإلا فاليوم عند الله تعالى يختلف عن يومنا ، ألم يقل سبحانه وتعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] أي : في الدنيا . وقال عن اليوم في الآخرة : { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا ، ولليوم في الآخرة . والحق سبحانه لم يُفصِّل لنا مسألة الخَلْق هذه إلا في سورة فُصِّلَت فهي التي فصَّلَتْ القول في خَلْق السماوات والأرض ، وهذه من عجائب هذه السورة . فقال تعالى : { قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ … } [ فصلت : 9 - 10 ] هذه ستة أيام . { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ … } [ فصلت : 11 - 12 ] وهكذا يصبح المجموع ثمانية أيام . إذن : كيف نُوفِّق بين ستة أيام في الإجمال ، وثمانية أيام في التفصيل ؟ قالوا : الأعداد يُحمل مُجْملها على مفصَّلها لأن المفصَّل تستطيع أن تضم بعضه إلى بعض ، أما المجمل فهو النهاية . وأَعِدْ معي قراءة الآيات : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا … } [ فصلت : 9 - 10 ] وهذا كله من لوازم الأرض { فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ … } [ فصلت : 10 ] أي : أن هذه اللوازم تابعة لما قبلها . فالمعنى : في تتمة أربعة أيام ، فاليومان الأولان داخلان في الأربعة ، كما لو قلت : سِرْتُ من القاهرة إلى طنطا في ساعة ، وإلى الأسكندرية في ساعتين ، فالساعة الأولى محسوبة من هاتين الساعتين . فالحق سبحانه خلق الأرض في يومين ، وخلق ما يلزمها في تتمة الأربعة الأيام ، فالزمن تتمة للزمن لأن الحدث يُتمِّم الحدث ، إذن : المحصلة النهائية ستة أيام ، وليس هناك خلاف بين الآيات { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ومن العجيب أن يأتي هذا التفصيل في فَصِّلت . وقوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ … } [ السجدة : 4 ] الحق - تبارك وتعالى - يخاطب الخَلْق بما يُقرِّب الأشياء إلى أذهانهم لأن الملوك أو أصحاب الولاية في الأرض لا يستقرون على كراسيهم إلا بعد أنْ يستتبَّ لهم الأمر . فمعنى { ٱسْتَوَىٰ … } [ السجدة : 4 ] صعد وجلس واستقر ، كل هذه المعاني تناسب الآية ، لكن في إطار قول الحق سبحانه وتعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . فكما أن لله تعالى وجوداً ليس كوجودك ، وسَمْعاً ليس كسمعك ، وفعلاً ليس كفِعْلك ، فكذلك له سبحانه استواء ، لكن ليس كاستوائك ، وإذا دخلت حجرة الجلوس مثلاً عند شيخ البلد وعند العمدة والمحافظ ورئيس الجمهورية ستجد مستويات متباينة ، كلٌّ على حسب ما يناسبه ، فإذا كان البشر يتفاوتون في الشيء الواحد ، فهل نُسوِّى بينا وبين الخالق عز وجل ؟ فالمعنى إذن { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ … } [ السجدة : 4 ] استتبَّ له أمر الخَلْق ، { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ … } [ السجدة : 4 ] الوليُّ : مَنْ يليك ، ويكون قريباً منك ، وإليه تفزع في الأحداث ، فهو ملجؤك الأول . والشفيع : الذي يشفع لك عند مَنْ يملك أمرك ، فالوليُّ هو الذي ينصرك بنفسه ، أمَّا الشفيع فهو يتوسط لك عند مَنْ ينصرك ، فليس لك وليٌّ ولا شفيع من دون الله عز وجل . لذلك يقول سبحانه : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ … } [ الإسراء : 67 ] فلا أحدَ ينجيكم ، ولا أحدَ يُسْعفكم إلا الله { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } [ السجدة : 4 ] . كأن هذه المسألة يجب أنْ تكون على بالك دائماً ، فلا تغفل عن الله لأنك ابْنُ أغيار ، والأحداث تتناوبك ، فلا يستقرّ بك حال ، فأنت بين الغِنَى والفقر ، والصحة والمرض ، والقوة والضعف . لذلك تذكَّر دائماً أنه لا وليَّ ولا نصيرَ لك إلا الله ، وإذا استحضرتَ ذلك دائماً اطمأنَّ قلبك ، ولم لا وأنت تستند إلى وليٍّ وإلى نصير لا يخذلك أبداً ، ولا يتخلى عنك لحظة ، فإذا خالط هذا الشعورُ قلبَك أقبلتَ على الأحداث بجسارة ، وإذا أقبلتَ على الحدث بجسارة لم يأخذ الحدث من قوتك شيئاً لأن الذي يخاف الأحداث يُضعِف قوته الفاعلة . فمثلاً صاحب العيال الذي يخاف الموت فيتركهم صغاراً لا عائلَ لهم لو راجع نفسه لقال لها : وَلِمَ الخوفُ على العيال من بعدي ، فهل أنا خلقتهُم ، أم لهم خالق يرعاهم ويجعل لهم من المجتمع الإيماني آباءً متعددين ؟ لو قال لنفسه ذلك ما اهتم لأمرهم ، وصَدَق الذي قال مادحاً : أنتَ طِرْتَ باليُتْم إلى حَدِّ الكَمالِ وقال آخر : @ قَال ذُو الآبَاءِ لَيْتِى لاَ أبَا لِي @@ ولَم لا ؟ وقد كفل الإسلام للأيتام أنْ يعيشوا في ظل المجتمع المسلم أفضل مما يعيش مَنْ له أب وأم . إذن : فالإنسان حينما يعلم أن له سنداً من ألوهية قادرة وربوبية لا تُسلمه يستقبل الحوادث بقوة ، ويقين ، ورضا ، وإيمان بأنه لن يُسْلَم أبداً ما دام له إيمان برب ، وكلمة رب هذه ستأتي على باله قَسْراً في وقت الشدة ، حين يخذله الناس وتُعْييه الأسباب ، فلا يجد إلا الله - حتى لو كان كافراً لقال في الشدة : يارب . وقوله تعالى : { مِّن دُونِهِ … } [ السجدة : 4 ] يعني : لا يوجد غيره ، وإنْ وُجِد غَيْرٌ فبتحنين الله للغير عليك ، فالخير أيّاً كان فمردُّه إلى الله . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ … } .